الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وله أنه احتبست مالية نصيبه عند العبد فله أن يضمنه كما إذا هبت الريح في ثوب إنسان وألقته في صبغ غيره حتى انصبغ به فعلى صاحب الثوب قيمة صبغ الآخر موسرا كان أو معسرا لما قلنا فكذا ههنا ، إلا أن العبد فقير فيستسعيه .

التالي السابق


واستدل لأبي حنيفة رحمه الله بقوله ( إنه ) أي الساكت ( احتبست ) على البناء للفاعل ( مالية نصيبه عند العبد فله أن يضمنه ) وإن وقع احتباسها عنده بغير اختياره ( كما إذا هبت الريح فألقت ثوب إنسان في صبغ غيره فانصبغ به فإن لصاحب الصبغ أن يضمن مالك الثوب قيمة صبغه موسرا كان أو معسرا لما قلنا ، إلا أن العبد فقير فيستسعيه ) ويأخذ فضل كسبه كالمعسر المديون ، وهذا يفيد أن تضمين المعتق على خلاف القياس ; لأنه إذا كان القياس تضمين [ ص: 466 ] العبد كان تضمين غيره غيره ، وهذا لأنه وإن حصل إفساد نصيبه بعتقه الاختياري لكنه تصرف في ملك نفسه فصار كما إذا هدم داره فانهدمت لذلك دار جاره . وأورد عليه أنه معارضة للنصوص بالتعليق فإنها أوجبت السعاية إذا كان المعتق معسرا لا إذا كان موسرا .

وأجيب بأن الشرط يوجب الوجود عند الوجود ولا يوجب العدم عند العدم فلا يلزم نفي الاستسعاء عند نفي الإعسار فجاز أن يثبت عند عدمه أيضا بالدليل وهو ما ذكرنا من الاحتباس كذا أورده شارح . وأجاب : والتحقيق في إيراده أن النصوص قسمت فأعطت حكم وجود الشرط وحكم عدمه فقال عند اليسار التضمين ، وعند عدمه وهو الإعسار الاستسعاء ، والقسمة تفيد اختصاص كل قسم بحكمه فلا يوجد الاستسعاء عند اليسار كما لا يوجد التضمين عند الإعسار وحينئذ يندفع ذلك الجواب . وقد أجيب أيضا بنحوه وهو أن القسمة ذكرت بلفظ الشرط ، وهو إنما يقتضي الوجود عند الوجود ، وحقيقة هذا الجواب منع أن القسمة تنافي الشركة مطلقا ، بل ذاك إذا لم تكن بشرطين بل بشرط واحد مثل قوله عليه الصلاة والسلام { وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا لك الحمد } وليس بشيء إذ لا أثر لتعدد الشرط ووحدته في اختلاف حكم القسمة . وفي الكافي : جهل فائدة القسمة نفي الضمان لو كان فقيرا ، ولا يخفى أن هذه القسمة كما تفيد نفي الضمان لو كان فقيرا تفيد نفي الاستسعاء لو كان موسرا بعين الجهة التي تفيد بها تلك الإفادة .

فإن قيل : فمن أي وجه أفادت القسمة نفي الشركة ؟ فالجواب أنه لما أعطى فيها حكم الشرط وحكم نقيضه كان ظاهرا في أن المذكور مع كل من النقيضين تمام حكمه فلا يكون له حكم آخر غيره . وغاية ما يمكن أن يقال : إن اقتصار الشارع على التضمين عند اليسار لأنه المحتاج إلى بيانه إذا كان على خلاف الدليل الظاهري ، وذلك أن الدليل وهو الاحتباس يقتضي قصر الاستسعاء على عتق الشريك سواء كان موسرا أو معسرا فلا يجوز تضمين المعتق ، فبين الشارع موضع مخالفته وهو التضمين في صورة اليسار وترك الآخر وهو جواز استسعاء العبد فيها لأن الدليل منصوب عليه وهذا لأن الدليل أفاد جواز الاستسعاء مقصورا فنفى القصر وبقي جوازه . ولا يخفى أن في هذا تقليل معارضة الدليلين لأنه في قصر الجواز على الاستسعاء أقل منه في نفي أصل جوازه ، وهذا الاعتبار واجب ما أمكن . وتحقيقه أن النص ورد مخصصا للقياس ، إذ بين بشرعية التضمين مع اليسار أن تعيين الاستسعاء إنما هو في غير ما إذا كان المقصود التقرب إلى الله تعالى بنفس التصرف في المحل ، أما إذا كان وله قدرة على إتمامها وجب كالشروع في صوم التطوع خصوصا وعدم إتمامها يوجب إتعابا للآخر وهو العبد ، بخلاف ما إذا لم يكن قادرا فإنه لا يلزمه يكتب له ثواب ما قدر عليه من القربة .

وأما على قولهما فالنص على وفق القياس على ما ذكرنا من أن الاستسعاء عندهما على خلاف القياس في صورة الإعسار بناء على أنه ضمان إتلاف وهو بعيد عن التوجيه ، إذ لا شك في أن عتق ما يملكه مشروع وعبادة ، والإتلاف وقع باتفاق الحال وهو لا يوجب ضمانا ; لأنه ليس جناية على الغير وإن فسدت مالية باقي العبد ، كمن هدم جداره فانهدم جدار غيره . فالحق أن القياس ليس إلا الاستسعاء والنص خصصه .

وفي المسألة قول الثوري والليث أن الساكت بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء ضمن ولا سعاية [ ص: 467 ] أصلا ، وسبب هذا القول إعلالهم لفظ السعاية في حديث أبي هريرة . قال النسائي : أثبت أصحاب قتادة شعبة وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة ، وقد اتفق شعبة وهشام على خلاف سعيد بن أبي عروبة : يعني في ذكر السعاية ، قال : وبلغني أن هماما روى هذا الحديث عن قتادة فجعل الكلام الأخير ، وإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه من قول قتادة .

وقال عبد الرحمن بن مهدي : أحاديث همام عن قتادة أصح من حديث غيره لأنه كتبها إملاء . وقال الدارقطني : سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : ما أحسن ما رواه همام وضبطه فصل قول النبي صلى الله عليه وسلم من قول قتادة . ورواه ابن أبي عروبة وجرير بن حازم عن قتادة فجعلا الاستسعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأحسبهما وهما فيه لمخالفة شعبة وهشام . قال الخطابي : اضطرب سعيد بن أبي عروبة في السعاية ، فمرة يذكرها ومرة لا يذكرها ، فدل على أن ذلك ليس من متن الحديث ، ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر في الستة عنه عليه الصلاة والسلام { من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق } قال صاحب تنقيح التحقيق : فيما قالوه نظر ، فإن سعيد بن أبي عروبة من الأثبات في قتادة ، وليس هو بدون همام عنه . وقد تابعه جماعة على ذكر الاستسعاء فيه ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم جرير بن حازم وأبان بن يزيد العطار وحجاج بن أرطاة ويحيى بن صبيح الخراساني . وقال الشيخ تقي الدين : وقد أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، وحسبك بذلك : يعني برفعهما الاستسعاء . وفي المسألة مذاهب أخرى ضعيفة : مثل أنه لا يعتق شيء أصلا ولو بإذن الشريك ، وأنه لا يعتق الباقي ويستمر على مملوكيته ، وأن له التضمين وإن كان معسرا ، وهو منقول عن زفر وبشر المريسي ، لا يعتق الباقي من بيت المال وهو قول ابن سيرين . .




الخدمات العلمية