الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كائنة عجيبة جدا ، وهي هدم المعلم سنجر مملوك ابن هلال في اليوم الرابع والعشرين من ربيع الآخر أطلق المعلم الهلالي بعد أن استوفوا منه تكميل ستمائة ألف درهم ، فبات في منزله عند باب الناطفانيين سرورا بالخلاص ، ولما أصبح ذهب إلى الحمام ، وقد ورد البريد من جهة السلطان من الديار المصرية بالاحتياط على أمواله وحواصله ، فأقبلت الحجبة ، ونقباء النقبة ، والأعوان من كل مكان ، فقصدوا داره ، فاحتاطوا بها وعليها بما فيها ، ورسم عليه وعلى ولديه ، وأخرجت نساؤه من المنزل في حالة صعبة ، وفتشوا النساء ، وانتزعوا [ ص: 607 ] عنهن الحلي والجواهر والنفائس ، واجتمعت العامة والغوغاء ، وحضر بعض القضاة ، ومعه الشهود بضبط الأموال ، والحجج ، والرهون ، وأحضروا المعلم ليستعلموا منه جلية ذلك ، فوجدوا من حاصل الفضة أول يوم ثلاثمائة ألف وسبعين ألفا ، ثم صناديق أخرى لم تفتح ، وحواصل لم يصلوا إليها; لضيق الوقت ، ثم أصبحوا يوم الأحد في مثل ذلك ، وقد بات الحرس على الأبواب والأسطحة لئلا يعدى عليها في الليل ، وبات هو وأولاده بالقلعة المنصورة محتفظا عليهم ، وقد رق له كثير من الناس لما أصابه من المصيبة العظيمة بعد التي قبلها سريعا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أواخر هذا الشهر توفي الأمير ناصر الدين محمد بن الدوادار السكري ، كان ذا مكانة عند أستاذه ومنزلة عالية ، ونال من السعادة في وظيفته أقصاها ، ثم قلب الله قلب أستاذه عليه فضربه ، وصادره ، وعزله ، وسجنه ، ونزل قدره عند الناس ، وآل به الحال إلى أن كان يقف على الباعة بفرسه ويشتري منهم ، ويحاككهم ، ويحمل حاجته معه في سرجه ، وصار مثلة بين الناس بعد أن كان في غاية ما يكون فيه الدوادرية من العز ، والجاه ، والمال ، والرفعة في الدنيا ، وحق على الله تعالى أن لا يرفع شيء من أمر الدنيا إلا وضعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الأحد سابع عشره أفرج عن المعلم الهلالي وعن ولديه ، وكانوا معتقلين بالقلعة المنصورة ، وسلمت إليهم دورهم وحواصلهم ، ولكن أخذ ما كان حاصلا في داره ، وهو ثلاثمائة ألف وعشرون ألفا ، وختم على حججه ليعقد لذلك مجلس ليرجع رأس ماله منها; عملا بقوله تعالى : [ ص: 608 ] وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون [ البقرة : 279 ] . ونودي عليه في البلد : إنما فعلنا به ذلك; لأنه لا يؤدي الزكاة ، ويعامل بالربا ، وحاجب السلطان ومتولي البلد وبقية المتعممين والمشاعلية تنادي عليه في أسواق البلد وأرجائها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي اليوم الثامن والعشرين منه ورد المرسوم السلطاني الشريف بإطلاق الدواوين إلى ديارهم وأهاليهم ، ففرح الناس بسبب ذلك لخلاصهم مما كانوا فيه من العقوبة والمصادرة البليغة ، ولكن لم يستمر بهم في مباشراتهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أواخر الشهر تكلم الشيخ شهاب الدين المقدسي الواعظ ، قدم من الديار المصرية تجاه محراب الصحابة ، واجتمع الناس إليه ، وحضر من قضاة القضاة : الشافعي والمالكي ، فتكلم على تفسير آيات من القرآن ، وأشار إلى أشياء من إشارات الصوفية بعبارات طلقة معربة حلوة صادعة للقلوب ، فأفاد ، وأجاد ، وودع الناس بعوده إلى بلده ، ولما دعا استنهض الناس للقيام ، فقاموا في حال الدعاء ، وقد اجتمعت به بالمجلس ، فرأيته حسن الهيئة والكلام والتأدب ، فالله يصلحه وإيانا . آمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي مستهل جمادى الآخرة ركب الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب لقصد غزو بلاد سيس في جيش كثيف ، لقاه الله النصر والتأييد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي مستهل هذا الشهر أصبح أهل القلعة وقد نزل جماعة من أمراء الأعراب من أعالي محبسهم - في عمائم وحبال - إلى الخندق ، وخاضوه ، وخرجوا من عند [ ص: 609 ] جسر الزلابية ، فانطلق اثنان ، وأمسك الثالث الذي تبقى في السجن ، وكأنه كان يمسك لهم الحبال حتى تدلوا فيها ، فاشتد نكير نائب السلطنة على نائب القلعة ، وضرب ابنيه النقيب وأخاه وسجنهما ، وكاتب في هذه الكائنة إلى السلطان ، فورد المرسوم بعزل نائب القلعة وإخراجه منها ، وطلبه لمحاسبة ما قبض من الأموال السلطانية في مدة ست سنين مباشرته ، وعزل ابنه عن النقابة ، وابنه الآخر عن استادارية السلطان ، فنزلوا من عزهم إلى عزلهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين سابع عشره جاء الأمير تاج الدين جبريل من عند الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب ، وقد فتح بلدين من بلاد سيس ، وهما طرسوس ، وأذنة ، وأرسل مفاتيحهما صحبة جبريل المذكور إلى السلطان - أيده الله - ثم افتتح حصونا أخر كثيرة في أسرع مدة ، وأيسر كلفة ، وخطب هناك القاضي ناصر الدين كاتب السر خطبة بليغة حسنة ، وبلغني في كتاب أن أبواب كنيسة أذنة حملت إلى الديار المصرية في المراكب ، قلت : وهذه هي أبواب الناصرية التي بالسفح ، أخذها صاحب سيس عام قازان ، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة ، فاستنفذت - ولله الحمد - في هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أواخر هذا الشهر بلغنا أن الشيخ قطب الدين هرماس الذي كان شيخ السلطان طرد عن جناب مخدومه ، وضرب ، وصودر ، وخربت داره إلى الأساس ، ونفي إلى مصياف ، فاجتاز بدمشق ، ونزل بالمدرسة الحلبية ظاهر باب الفرج ، [ ص: 610 ] وزرته في من سلم عليه ، واجتمعت به فإذا هو شيخ حسن عنده ما يقال ، ويتلفظ معربا جيدا ، ولديه فضيلة ، وعنده تواضع وتصوف ، فالله يحسن عاقبته . ثم تحول إلى العذراوية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم السبت سابع شهر رجب توجه الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن ابن قاضي الجبل الحنبلي إلى الديار المصرية مطلوبا على البريد إلى السلطان; لتدريس الطائفة الحنبلية بالمدرسة التي أنشاها السلطان بالقاهرة المعزية ، وخرج لتوديعه القضاة والأعيان إلى أثناء الطريق ، كتب الله سلامته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية