الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 617 ] ثم دخلت سنة اثنتين ، وستين وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة المباركة وسلطان الإسلام بالديار المصرية ، والشامية ، والحرمين الشريفين ، وما يتبع ذلك ويلتحق به - الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي ، ولا نائب له بالديار المصرية ، وقضاته بها هم المذكورون في العام الماضي ، ووزيره القاضي ابن خصيب ، ونائب الشام بدمشق الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي ، والقضاة والخطيب وبقية الأشراف وناظر الجيش والمحتسب هم المذكورون في العام الماضي ، والوزير ابن قروينه ، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي ، ووكيل بيت المال القاضي صلاح الدين الصفدي ، وهو أحد موقعي الدست الأربعة ، وشاد الأوقاف الأمير ناصر الدين بن فضل الله ، وحاجب الحجاب اليوسفي ، وقد توجه إلى الديار المصرية ليكون بها أمير جندار ، ومتولي البلد ناصر الدين ، ونقيب النقباء ابن الشجاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الاثنين سادس المحرم قدم الأمير علي نائب حماة منها ، فدخل دمشق مجتازا إلى الديار المصرية ، فنزل في القصر الأبلق ، ثم تحول إلى [ ص: 618 ] دار دوادارة يلبغا الذي جدد فيها مساكن كثيرة بالقصاعين ، وتردد الناس إليه للسلام عليه ، فأقام بها إلى صبيحة يوم الخميس تاسعه ، فسار إلى الديار المصرية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم أحضر حسن بن الخياط من محلة الشاغور إلى مجلس الحكم المالكي من السجن ، وناظر في إيمان فرعون ، وادعي عليه بدعاوى لانتصاره لفرعون - لعنه الله - وصدق ذلك باعترافه أولا ، ثم بمناظرته في ذلك ثانيا ، وهو شيخ كبير جاهل عامي رابض ، لا يقيم دليلا ولا يحسنه ، وإنما قام في مخيلته شبهة يحتج عليها بقوله إخبارا عن فرعون حين أدركه الغرق ، وأحيط به ، ورأى بأس الله ، وعاين عذابه الأليم ، فقال حين الغرق : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ يونس : 90 ] . قال الله تعالى : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية [ يونس : 91 ، 92 ] فاعتقد هذا العامي الرابض أن هذا الإيمان الذي صدر من فرعون - والحالة هذه - ينفعه ، وقد قال تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ غافر : 85 ، 84 ] ، وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 97 ، 96 ] ، وقد دعا موسى على فرعون فقال : وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون [ يونس : 89 ، 88 ] الآية [ ص: 619 ] ثم حضر في يوم آخر ، وهو مصمم على ضلاله ، فضرب بالسياط ، فأظهر التوبة ، ثم أعيد إلى السجن في زنجير ، ثم أحضر يوما ثالثا ، وهو يستهل بالتوبة فيما يظهر ، فنودي عليه في البلد ثم أطلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ليلة الثلاثاء الرابع عشر طلع القمر خاسفا كله ، ولكن كان تحت السحاب ، فلما ظهر وقت العشاء وقد أخذ في الجلاء - صلى الخطيب صلاة الكسوف قبل العشاء ، وقرأ في الأولى بسورة " العنكبوت " ، وفي الأخرى بسورة " يس " ، ثم صعد المنبر فخطب ، ثم نزل بعد العشاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقدمت كتب الحجاج يخبرون بالرخص والأمن ، واستمرت زيادة الماء من أول ذي الحجة وقبلها إلى هذه الأيام من آخر هذا الشهر والأمر على حاله ، وهذا شيء لم يعهد كما أخبر به عامة الشيوخ ، وسببه أنه جاء ماء من بعض الجبال ، انهال في طريق النهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودخل المحمل السلطاني يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من المحرم قبل الظهر ، ومسك أمير الحاج جركتمر المارداني الذي كان مقيما بمكة - شرفها الله تعالى ، وحماها من الأوغاد - فلما عادت التجريدة مع الحجاج إلى دمشق صحبة القراسنقر الذي تسلم الحجيج من مكة من أميرهم في الطلقة ناصر الدين بن قراسنقر المنصوري فمسك من ساعة وصوله إلى دمشق ، فقيد ، وسير إلى الديار [ ص: 620 ] المصرية على البريد ، وبلغنا أن الأمير سندا - أمير مكة - غرر بجند السلطان الذين ساروا صحبة ابن قراسنقر ، وكبسهم وقتل من حواشيهم ، وأخذ خيولهم ، وأنهم ساروا جرائد بغير شيء مسلوبين إلى الديار المصرية ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أول صفر اشتهر فيه وتواتر خبر الفناء الذي بالديار المصرية بسبب كثرة المستنقعات من فيض النيل عندهم ، على خلاف المعتاد ، فبلغنا أنه يموت من أهلها كل يوم فوق الألفين ، فأما المرض فكثير جدا ، وغلت الأسعار; لقلة من يتعاطى الأشغال ، وغلا السكر والمياه والفاكهة جدا ، وتبرز السلطان إلى ظاهر البلد ، وحصل له تشويش أيضا ، ثم عوفي بحمد الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ثالث ربيع الآخر قدم من الديار المصرية ابن الحجان رسول صاحب العراق لخطبة بنت السلطان ، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يصدقها مملكة بغداد ، وأعطاهم مستحقا سلطانيا ، وأطلق لهم من التحف والخلع والأموال شيئا كثيرا ، ورسم للرسول بمشترى قرية من بيت المال لتوقف على الخانقاه التي يريد أن يتخذها بدمشق قريبا من الطواويس ، وقد خرج لتلقيه نائب الغيبة ، وهو حاجب الحجاب والدولة والأعيان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقرأت في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر كتابا ورد من حلب بخط الفقيه العدل شمس الدين العراقي من أهلها ، ذكر فيه أنه كان في حضرة نائب السلطنة [ ص: 621 ] في دار العدل يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول ، وأنه أحضر رجل قد ولد له ولد عاش ساعة ومات ، وأحضره معه وشاهده الحاضرون ، وشاهده كاتب الكتاب ، فإذا هو شكل سوي ، له على كل كتف رأس بوجه مستدير ، والوجهان إلى ناحية واحدة ، فسبحان الخلاق العليم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبلغنا أنه في هذا الشهر سقطت المنارة التي بنيت للمدرسة السلطانية بمصر ، وكانت مستجدة على صفة غريبة; وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبو الباب الذي للمدرسة المذكورة ، فلما سقطت أهلكت خلقا كثيرا من الصناع بالمدرسة ، والمارة ، والصبيان الذين في مكتب المدرسة ، ولم ينج من الصبيان فيما ذكر شيء سوى ستة ، وكان جملة من هلك بسببها نحو ثلاثمائة نفس ، وقيل : أكثر ، وقيل : أقل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى الغيضة; لإصلاحها وإزالة ما فيها من الأشجار المؤذية والدغل يوم الاثنين التاسع والعشرين من الشهر ، وكان سلخه ، وخرج معه جميع الجيش من الأمراء وأصحابه وأجناد الحلقة برمتهم ، لم يتأخر منهم أحد ، وكلهم يعملون فيها بأنفسهم وغلمانهم ، وأحضر إليهم خلق من فلاحي المرج والغوطة وغير ذلك ، ورجع يوم السبت خامس الشهر الداخل ، وقد نظفوها من الدغل والقش .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 622 ] واتفقت كائنة غريبة لبعض السؤال ، وهو أنه اجتمع جماعة منهم قبل الفجر ليأخذوا خبزا من صدقة تربة امرأة ملك الأمراء تنكز عند باب الخواصين ، فتضاربوا فيما بينهم ، فعمدوا إلى رجل منهم فخنقوه خنقا شديدا ، وأخذوا منه جرابا فيه نحو من أربعة آلاف درهم وشيء من الذهب ، وذهبوا على حمية ، وأفاق هو من الغشي فلم يجدهم ، واشتكى أمره إلى متولي البلد ، فلم يظفر بهم إلى الآن . وقد أخبرني الذي أخذوا منه; أنهم أخذوا منه ثلاثة آلاف درهم معاملة ، وألف درهم بندقية ، ودينارين وزنهما ثلاثة دنانير - كذا قال لي إن كان صادقا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم السبت خامس جمادى الأولى طلب قاضي القضاة شرف الدين الحنفي الشيخ علي بن البنا ، وقد كان يتكلم في الجامع الأموي على العوام وهو جالس على الأرض بشيء من الوعظيات وما أشبهها من صدره ، فكأنه تعرض في غضون كلامه لأبي حنيفة - رحمه الله - فأحضر فاستتيب من ذلك ، ومنعه قاضي القضاة شرف الدين الكفري من الكلام على الناس ، وسجنه ، وبلغني أنه حكم بإسلامه ، وأطلقه من يومه . وهذا المذكور ابن البنا عنده زهادة وتقشف ، وهو مصري يسمع الحديث ويقرؤه ، ويتكلم بشيء من الوعظيات ، والرقائق ، وضرب أمثال ، وقد مال إليه كثير من العوام ، واستحلوه ، وكلامه قريب إلى مفهومهم ، وربما أضحك في كلامه وحاضرته ، وهو مطبوع قريب إلى [ ص: 623 ] الفهم ، ولكنه أشار فيما ذكر عنه في شطحته إلى بعض الأشياء التي لا تنبغي أن تذكر ، والله الموفق ، ثم إنه جلس للناس في يوم الثلاثاء ثامنه ، فتكلم على عادته ، فتطلبه القاضي المذكور ، فيقال : إن المذكور تعنت . انتهى ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية