الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيات قائمة بأنفسها غير الموجود المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهيات الثابتة المغايرة للوجود المحسوس، ومن المواد القائمة بنفسها المغايرة للجسم المحسوس، فهو حادث في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، سواء قالوا باستغناء المواد عن الصور واستغناء الماهيات عن وجودها -كما يذكر عن أفلاطن وشيعته-، أو قالوا بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.

فلم يبق إذا محايثة العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف، [ ص: 190 ] وهذا ممتنع لوجهين:

أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تحايثها الأعراض، والعرض مفتقر إليها محتاج إليها، والعرض يمتنع أن يكون هذا الفاعل المبدع العلة لمحاله أو غير محاله، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلته كثيرة، فإن الأعراض ذواتها مفتقر[ة] إلى ذوات محالها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالها، والواجب مستغن عمن دونه، فلو لم تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مبدعة لها فاعلة لها أو محالها.

الوجه الثاني: أن كلا من المتحايثين يمتنع وجوده دون محايث، فإن العرض لا يوجد دون الجسم، والجسم أيضا يمتنع خلوه عن جميع الأعراض، فإنه لا بد له من شكل، والأبدان تكون متحركا أو ساكنا. ومن ظن جواز خلو الأجسام عن الأعراض ، وإذا كان كذلك فكل محايث لمخلوق يمتنع وجوده بدون وجود المخلوق، ويكون مشروطا بوجود المخلوق، ومفتقرا في وجوده إلى وجود المخلوق، فيمتنع حينئذ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم المحايث، فيجب أن يكونا مفعولين لفاعل ثالث، فيكون الخالق مخلوقا والواجب ممكنا، أو يكون كل منهما واجب الوجود بنفسه، فيمتنع جعل أحدهما خالقا والآخر مخلوقا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا محدث ولا ممكن، وهذا خلاف الحس، فإنا نشهد الحدوث والعدم يعتقبان على ما شاء الله من [ ص: 191 ] العالم، وما وجد بعد عدمه وعدم بعد وجوده يمتنع أن يكون واجبا بغيره مطلقا، فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه.

ومن تدبر هذه المعاني وما يشبهها تبين له أن كل من جعله محايثا للمخلوقات امتنع أن يكون عنده خالقا لها أو مبدعا أو علة أو يكون غنيا عنها، بل يجب على قوله أن يكون مفتقرا إليها كافتقارها إليها، كما يصرح بذلك صاحب "الفصوص" وأمثاله من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي وجوبه بنفسه وإمكان غيره، وقد علم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب مستغن بنفسه، ومن موجود مفتقر إلى غيره، بل فيه موجود حادث بعد أن لم يكن، والحادث لا يحدث نفسه ولا يحدث بلا محدث، بل لا بد للحادث من محدث، فهذا هذا.

الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكا محيطا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقها شيء آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكا محيطا بها، مع كونه أكبر منها تارة وأصغر منها أخرى، فكيف يجب في الخالق إذا كان فوقها أن يكون فلكا مستديرا؟

وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو ذلك هي فوق ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقا أو تقديرا لا ريب أنها فوق بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوق الأرض، وهي قدر الأرض أكثر من مئة وستين مرة، ومع هذا فليست فلكا محيطا بالأرض. والقمر فوق الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فلكا مستديرا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة، [ ص: 192 ] ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدار، يقال: إن أصغرها بقدر الأرض ثماني عشر [ة] مرة.

وهذا الكلام على نمط من تكلم باستدارة الأفلاك، فإن ذلك لما كان من علم الحساب كان هذا من توابعه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يعلم بالسمع وهذا لا يعلم بالسمع فلا ريب أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعه، ولنا عنه غنية، فنقول: كل كوكب مرئي في السماء هو فوق الأرض مطلقا، مع العلم أنه ليس فلكا محيطا بها، سواء لا قدرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقه لا يجب أن يكون مسامتا لجميع أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقه. وعليه سواء كان أكبر منه كالسماء على الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية