الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غرناطة ، وملك أمير المسلمين لها ، وقد ذكرنا أخذها في وقعة الزلاقة ، فلما ذكرناها تفجع ، وتلهف ، [ ص: 340 ] واسترجع ، وذكر قصرها ، فدعونا لقصره بالدوام ، ولملكه بتراخي الأيام فأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى :


يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد



فاستحالت مسرته ، وتجهمت أسرته . ثم أمر بالغناء من ستارته فغني :


إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر     فانظر إلى أي حال أصبح الطلل



فتأكد تطيره ، واشتد اربداد وجهه وتغيره ، وأمر مغنية أخرى بالغناء ، فغنت :


يا لهف نفسي على مال أفرقه     على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني     ما ليس عندي من إحدى المصيبات



قال ابن اللبانة : فتلافيت الحال بأن قمت فقلت :


محل مكرمة لا هد مبناه     وشمل مأثرة لا شته الله
البيت كالبيت لكن زاد ذا     شرفا إن الرشيد مع المعتد ركناه
ثاو على أنجم الجوزاء مقعده     وراحل في سبيل الله مثواه
حتم على الملك أن يقوى وقد     وصلت بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأس توقد فاحمرت لواحظه     ونائل شب فاخضرت عذاراه



فلعمري قد بسطت من نفسه ، وأعدت عليه بعض أنسه ، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل بقولي : البيت كالبيت . وأمر إثر ذلك بالغناء فغني :


ولما قضينا من منى كل حاجة     ولم يبق إلا أن تزم الركائب



فأيقنا أن هذه الطير ، تعقب الغير . فلما أراد أمير المسلمين ملك الأندلس سار من مراكش إلى سبتة ، وأقام بها ، وسير العساكر مع سير بن أبي بكر وغيره إلى [ ص: 341 ] الأندلس ، فعبروا الخليج فأتوا مدينة مرسية ، فملكوها وأعمالها ، وأخرجوا صاحبها أبا عبد الرحمن بن طاهر منها ، وساروا إلى مدينة شاطبة ومدينة دانية فملكوها .

وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج قديما ، بعد أن حصروها سبع سنين ، فلما سمعوا بوقعة الزلاقة فارقوها ، فملكها المسلمون أيضا ، وعمروها وسكنوها ، فصارت الآن للمرابطين .

وكانوا قد ملكوا غرناطة نوبة الزلاقة ، فقصدوا مدينة إشبيلية ، وبها صاحبها المعتمد بن عباد ، فحصروه بها ، وضيقوا عليه ، فقاتل أهلها قتالا شديدا ، ( وظهر من شجاعة ) المعتمد ، وشدة بأسه ، وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره ما يقاربه ، فكان يلقي نفسه في المواقف التي لا يرجى خلاصه منها ، فيسلم بشجاعته ، وشدة نفسه ، ولكن إذا نفدت المدة ، لم تغن العدة .

وكانت الفرنج قد سمعوا بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس ، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم ، فجمعوا فأكثروا ، وساروا ليساعدوا المعتمد ، ويعينوه على المرابطين ، فسمع سير بن أبي بكر ، مقدم المرابطين بمسيرهم ، ففارق إشبيلية وتوجه إلى لقاء الفرنج ، فلقيهم ، وقاتلهم ، وهزمهم ، وعاد إلى إشبيلية فحصرها ، ولم يزل الحصار دائما ، والقتال مستمرا إلى العشرين من رجب من هذه السنة ، فعظم الحرب ذلك اليوم ، واشتد الأمر على أهل البلد ، ودخله المرابطون من واديه ، ونهب جميع ما فيه ، ولم يبقوا على سبد ولا لبد ، وسلبوا الناس ثيابهم ، فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم ، وسبيت المخدارت ، وانتهكت الحرمات ، فأخذ المعتمد أسيرا ، ومعه أولاده الذكور والإناث ، بعد أن استأصلوا جميع مالهم ، فلم يصحبهم من ملكهم بلغة زاد .

وقيل : إن المعتمد سلم البلد بأمان ، وكتب نسخة الأمان والعهد ، واستحلفهم به لنفسه ، وأهله ، وماله ، وعبيده ، وجميع ما يتعلق بأسبابه ، فلما سلم إليهم إشبيلية لم يفوا له ، وأخذوهم أسراء ، ومالهم غنيمة ، وسير المعتمد وأهله إلى مدينة أغمات ، [ ص: 342 ] فحبسوا فيها ، وفعل أمير المسلمين بهم أفعالا لم يسلكها أحد ممن قبله ، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده ، إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة ، وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم ، حتى كانت بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم ، وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عند ذكر وفاته ، فأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم قدرة .

وأغمات هذه مدينة في سفح جبل بالقرب من مراكش ، وسيرد من ذكر المعتمد عند موته ، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، ما يعرف به محله .

قال أبو بكر بن اللبانة : زرت المعتمد بعد أسره بأغمات ، وقلت أبياتا ، عند دخولي إليه ، منها :


لم أقل في الثقاف كان ثقافا     كنت قلبا به وكان شغافا
يمكث الزهر في الكمام     ولكن بعد مكث الكمام يدنو قطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم     لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درة للمعالي ركب     الدهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصا     كريما مثلما تحجب الدنان السلافا
أنت للفضل كعبة ولو     أني كنت أسطيع لالتزمت الطوافا



قال : وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب ، وأشهى من رشفات الحبيب ، وأدل على السماح من فجر على صباح .

ولما أخذ المعتمد وأهله قتل ولداه الفتح ويزيد بين يديه صبرا ، فقال في ذلك :

[ ص: 343 ]

يقولون صبرا لا سبيل إلى الصبر     سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة     كما بيزيد الله قد زاد في أجري
هوى بكما المقدار عني ولم     أمت فأدعى وفيا قد نكصت إلى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود في     الثرى إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
أبا خالد أورثتني البث خالدا أبا     نصر مذ ودعت ودعني نصري



وكان المعتمد يكاتبه فضلاء البلاد ، وهو محبوس ، بالنثر والنظم ، يتوجعون له ، ويذمون الزمان وأهله ، حيث مثله منكوب ، فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس ، ( وكتبه إليه ) يذكر مسيرهم عن إشبيلية إلى أغمات :


جرى لك جد بالكرام عثور     وجار زمان كنت منه تجير
لقد أصبحت بيض الظبى في     غمودها إناثا لترك الضرب وهي ذكور
ولما رحلتم بالندى في أكفكم     وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد أتت     ألا ( فانظروا كيف الجبال تسير
)



وقال شاعره ابن اللبانة في حادثته أيضا :


تبكي السماء بدمع رائح غادي     على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها     وكانت الأرض منها تحت أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على     أساود منهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها     فاليوم لا عاكف فيها ولا باد



ولما استقصى عسكر أمير المسلمين ملوك الأندلس ، وأخذ بلادهم ، جمع [ ص: 344 ] ملوكهم وسيرهم إلى بلاد بالغرب ، وفرقهم فيها ، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة .

ولما فرغ سير من إشبيلية سار إلى المرية فنازلها ، وكان صاحبها محمد بن ( معن بن صمادح ) ، فقال لولده : ما دام المعتمد بإشبيلية فلا نبالي بالمرابطين ، فلما سمع بملكهم لها ، وما جرى للمعتمد ، مات في تلك الأيام غما وكمدا ، فلما مات سار ولده الحاجب وأهله في مراكب ، ومعهم كل مالهم ، وقصدوا بلاد بني حماد ، فأحسنوا إليهم .

وكان عمر بن الأفطس ، صاحب بطليموس ، ممن أعان سير على المعتمد ، فلما فتحت إشبيلية رجع ابن الأفطس إلى بلده ، فسار إليه سير ، وحاربه ، فغلبه ، وأخذ بلده منه ، وأخذه أسيرا هو وولده الفضل ، فقتلهما ، فقال عمر حين أرادوا قتله : قدموا ولدي قبلي للقتل ليكون في صحيفتي ! فقتل ولده قبله ، وقتل هو بعده ، واحتوى سير على ذخائرهم وأموالهم .

ولم يترك من ملوك الأندلس سوى بني هود ، فإنه لم يقصد بلادهم ، وهي شرق الأندلس ، وكان صاحبها حينئذ المستعين بالله بن هود ، وهو من الشجعان الذين يضرب المثل بهم ، وكان قد أعد كل ما يحتاج إليه في الحصار ، وترك عنده ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة ، وكانت قلعة حصينة ، وكانت رعيته تخافه ، ولم يزل يهادي أمير المسلمين ، قبل أن يقصد بلاد الأندلس ويملكها . ويواصله ، ويكثر مراسلته ، فرعى له ذلك ، حتى إنه أوصى ابنه علي بن يوسف عند موته بترك التعرض [ ص: 345 ] لبلاد بني هود ، وقال : اتركهم بينك وبين العدو ، فإنهم شجعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية