الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ) يقال : أقل فلان الشيء إذا حمله ، قال صاحب الكشاف : واشتقاق الإقلال من القلة ؛ لأن من يرفع شيئا فإنه يرى ما يرفعه قليلا ، وقوله : ( سحابا ثقالا ) أي بالماء جمع سحابة ، والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحابا ثقالا بما فيها من الماء ؛ والمعنى : أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقا في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكا شديدا ، فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول ، فلا جرم يبقى متعلقا في الهواء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ ، وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي الرياح اللواقح ، وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان ، وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أن هذه الرياح تارة تكون شرقية ، وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية . وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها ، ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض ، فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر ، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وتارة ينزل الريح من جهة فوق . فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضا عجيب .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن ابن عمر رضي الله عنهما : الرياح ثمان : أربعة منها عذاب ، وهو القاصف ، والعاصف ، والصرصر ، والعقيم ، وأربعة منها رحمة : الناشرات ، والمبشرات ، والمرسلات ، والذاريات ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور " والجنوب من ريح الجنة . وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض ، وعن السدي : أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ، ورحمته هو المطر .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : اختلاف الرياح في الصفات المذكورة ، مع أن طبيعة الهواء واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة ، يدل على أن هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية