الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      معنى (تنقمون): تسخطون، وقيل: تكرهون، وقيل: تنكرون، نقم ينقم، ونقم ينقم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس: قالت اليهود في أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هم أقل الناس حظا في الدنيا والآخرة، وعنه: أن جماعة من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء، فقرأ عليهم: قل آمنا بالله وما أنـزل علينا ; فلما بلغ إلى ذكر عيسى جحدوا نبؤته، فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأن أكثركم فاسقون : قال الحسن: أي: بفسقكم نقمتم ذلك علينا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: هل تنقمون منا إلا إيماننا وفسقكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنما نقموا منهم فسقهم إذ لم يتابعوهم عليه، ولم ينسبهم كلهم إلى الفسق; لأن منهم من آمن; كابن سلام، وشبهه.

                                                                                                                                                                                                                                      قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله الآية: قال مجاهد: يعني بذلك: اليهود، وتقدم القول في (مثوبة) .

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك شر مكانا : قيل: معناه: أولئك في الآخرة شر مكانا منكم في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 482 ] وقيل: المعنى: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا منكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: أولئك الذين نقموا منكم شر مكانا من الذين لعنهم الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ويبعد أن يكون المعنى: أولئك شر مكانا منكم في الآخرة، إلا على قول من قال: (العسل أحلى من الخل)، حكاه الكوفيون.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا جاءوكم قالوا آمنا الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه صفة المنافقين، والمعنى: أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه، بل دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين.

                                                                                                                                                                                                                                      والله أعلم بما كانوا يكتمون أي: من نفاقهم.

                                                                                                                                                                                                                                      لولا ينهاهم الربانيون والأحبار أي: هلا ينهاهم الربانيون، و (الربانيون والأحبار): جميعا من اليهود، وقال الحسن: (الربانيون): علماء أهل الإنجيل، و (الأحبار): علماء أهل التوراة.

                                                                                                                                                                                                                                      لبئس ما كانوا يصنعون يعني: الربانيين والأحبار في تركهم نهيهم، وهذه الآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت اليهود يد الله مغلولة : قال ابن عباس: قالت اليهود: إن الله بخيل; أي: ممسك عنا، فهو على التمثيل; كقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك [الإسراء:29] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 483 ] الحسن: المعنى: يد الله مقبوضة عن عذابنا.

                                                                                                                                                                                                                                      و(اليد) في كلام العرب: تكون الجارحة، وتكون النعمة، وتكون القوة، وتكون الملك، وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه، ويجوز وصف الباري سبحانه وتعالى بجميع هذه الوجوه إلا الجارحة.

                                                                                                                                                                                                                                      (بل يداه مبسوطتان): قيل: إن اليدين ههنا: يدا صفة يوصف بهما، كما وصف نفسه بالوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: معناه: نعمتاه: نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، أو النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، كما قال: وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة [لقمان: 20]، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: «النعمة الظاهرة: ما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيئ عملك» .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي: معنى قوله: (يداه): قوتاه بالثواب والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود: إن يده مقبوضة عن عذابهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: نعمتاه اللتان هما المطر والنبات، اللتان النعمة بهما ومنهما.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 484 ] وقيل: إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة، كقول العرب: (لبيك وسعديك) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: غلت أيديهم : دعاء عليهم، وقيل: المعنى: غلت أيديهم عن الخير، وقيل: المعنى: غلت في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      [وقيل: هو على إضمار الفاء، التقدير: فغلت أيديهم، كما قال تعالى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا [البقرة:67]; أي: فقالوا].

                                                                                                                                                                                                                                      وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة : قال مجاهد، والحسن: بين اليهود والنصارى، وقال غيرهما: يعني: بين اليهود; لأنهم فرق.

                                                                                                                                                                                                                                      كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أي: كلما تجمعوا شتت الله جمعهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم أي: لغطيناها بالمغفرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم : قال ابن عباس، وغيره: يعني: المطر والنبات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: لوسعنا عليهم في أرزاقهم، فهو كقولك: فلان في خير، من قرنه إلى قدمه)، وهذا جواب لقولهم: (يد الله مغلولة)، على قول من جعل المعنى: أنهم قالوا: هو ممسك عنا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 485 ] منهم أمة مقتصدة ; أي: معتدلة في عمل الطاعة من غير غلو.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك ; قيل: معناه: أظهر التبليغ; لأنه كان في أول الإسلام قبل قوته يخفيه; خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس، وكان عمر رضي الله عنه أول من أظهر إسلامه، وقال: لا يعبد الله سرا، وفي ذلك نزلت: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [الأنفال: 64] .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس: المعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه; فما بلغت رسالاته، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر الشريعة، وقد علم الله تعالى من نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويروى: أن سبب نزول هذه الآية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة، فجاء أعرابي، فاخترط سيفه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني ؟ فقال: «الله»، فرعدت يد الأعرابي، وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة، حتى انتثر دماغه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية