الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال عقيبه : ( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة ، وعلى هذا التقدير فهو قد خوفهم بيوم القيامة ، وهذا هو الدعوى الثالثة ، أو عذاب يوم الطوفان ، وعلى هذا التقدير : فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله . والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة ، ولم يذكر على صحة واحد منها دليلا ولا حجة ، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد ، فهذا باطل ، لما أن القول بالتقليد باطل . وأيضا فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد ، فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد ؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل ، فهذا الدليل غير مذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة ، وصحة المعاد ، وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحدا من الأنبياء لا يدعو أحدا إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل . أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام ، فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : أنه عليه السلام ذكر أولا قوله : ( اعبدوا الله ) وثانيا قوله : ( ما لكم من إله غيره ) والثاني كالعلة للأول ؛ لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلا من الله ، ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم ، فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله ، [ ص: 122 ] ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي : إنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك ؟ وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا ، وحينئذ لا يحسن عبادته ، فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطا للعلم بحسن العبادة .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة في هذه الآية : أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة ؛ لأن قوله : ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام ، فكان المعنى : اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره ، حتى يتطابق النفي والإثبات ، ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود ، وإلا لوجب كون الأصنام آلهة ، وأن لا يكون الإله إلها في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود ، فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله : ( إني أخاف عليكم ) هل هو اليقين ، أو الخوف بمعنى الظن والشك ؟ قال قوم : المراد منه الجزم واليقين ؛ لأنه كان جازما بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين . وقال آخرون : بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه إنما قال : ( إني أخاف عليكم ) لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التجويز لا يكون قاطعا بنزول العذاب ، فوجب أن يذكره بلفظ الخوف .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ، ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة ، فلا جرم بقي متوقفا مجوزا أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة : ( يخافون ربهم ) [ النحل : 50 ] أي يحذرون المعاصي خوفا من العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه بتقدير أن يكون قاطعا بنزول أصل العذاب ، لكنه ما كان عارفا بمقدار ذلك العذاب ، وهو أنه عظيم جدا أو متوسط ، فكان هذا الشك راجعا إلى وصف العقاب ، وهو كونه عظيما أم لا ، لا في أصل حصوله .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه ، فقال : ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) قال المفسرون : " الملأ " الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء ، والدليل عليه أن قوله : ( من قومه ) يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه ، وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف ، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المجالس ، وتمتلئ القلوب من هيبتهم ، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم ، وتتوجه العيون في المحافل إليهم ، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء ، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( إنا لنراك ) هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( في ضلال مبين ) أي في خطأ ظاهر وضلال بين ، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحا عليه السلام ذكرها ، وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد ، ولما ذكروا هذا الكلام أجاب نوح عليه السلام بقوله : ( ياقوم ليس بي ضلالة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : إن القوم قالوا : ( إنا لنراك في ضلال مبين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فجوابه أن يقال : ليس بي ضلال ، فلم ترك هذا الكلام ، وقال : ليس بي ضلالة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلت : لأن قوله : ( ليس بي ضلالة ) أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة ، فكان هذا أبلغ في عموم السلب ، ثم إنه عليه السلام لما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به ، ووصف نفسه بأشرف الصفات [ ص: 123 ] وأجلها ، وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين - ذكر ما هو المقصود من الرسالة ، وهو أمران :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : تبليغ الرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : تقرير النصيحة . فقال : ( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو " أبلغكم " بالتخفيف ، من " أبلغ " ، والباقون بالتشديد . قال الواحدي : وكلا الوجهين جاء في التنزيل ، فالتخفيف قوله : ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ) [ هود : 57 ] والتشديد ( فما بلغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه : أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه ، وأما النصيحة : فهو أنه يرغبه في الطاعة ، ويحذره عن المعصية ، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب بأبلغ الوجوه ، وقوله : ( رسالات ربي ) يدل على أنه تعالى حمله أنواعا كثيرة من الرسالة . وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي ، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا ، وقوله : ( وأنصح لكم ) قال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نصحتك ، إنما تقول : نصحت لك ، ويجوز أيضا نصحتك . قال النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                            نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي



                                                                                                                                                                                                                                            وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : أني أبلغ إليكم تكاليف الله ، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح ، وأدعوكم إلى ما دعاني ، وأحبب إليكم ما أحبه لنفسي .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وأعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : وأعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقابا شديدا خارجا عما تتصوره عقولكم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : يجوز أن يكون المراد : وأعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون . ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية