الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا حلف لا يقربها أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا عندنا . وقال ابن أبي ليلى هو مول ، إن تركها أربعة أشهر بانت بالتطليقة . وهكذا كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في الابتداء فلما بلغه فتوى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر ) رجع عن قوله . وابن أبي ليلى استدل بظاهر الآية ، قال الله تعالى { : للذين يؤلون من نسائهم } والإيلاء : هو اليمين . فتقييد اليمين بمدة أربعة أشهر يكون زيادة . ولكنا نقول المولي من لا يملك قربان امرأته في المدة إلا بشيء يلزمه ، وإذا عقد يمينه على شهر فهو يتمكن من قربانها بعد مضي الشهر من غير أن يلزمه شيء فلم يكن موليا كما في ترك مجامعتها مدة بغير يمين .

( قال ) : وكل ما حلف به على أربعة أشهر أو أكثر أن لا يقربها مما يكون به حالفا فهو مول عندنا . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا عقد يمينه على أربعة أشهر لم يكن موليا بناء على الأصل الذي بينا أن تضييق الأمر عنده بعد مضي المدة ، فإذا كانت المدة أربعة أشهر ينتهي اليمين بمضيها فلا يمكن تضييق الأمر عليه بعد ذلك ; لأنه يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء ، وإذا كانت المدة أكثر [ ص: 23 ] من أربعة أشهر فتضييق الأمر عليه بعد مضي المدة ممكن ، وعندنا مجرد مضي المدة عزيمة الطلاق ، فإذا كانت المدة أربعة أشهر يتم معنى الإيلاء به ، وتقع الفرقة بمضيه ثم اليمين نوعان : أحدهما - ما يقصد به تعظيم المقسم به : والثاني - الشرط والجزاء ، والأول يعرفه أهل اللغة ، فأما الشرط والجزاء يمين عند الفقهاء ، ولا يعرفه أهل اللغة ، وبكل واحد من النوعين يثبت حكم الإيلاء فإذا قال : أحلف ، أو أحلف بالله لا أقربك فهو مول عندنا . وقال زفر رحمه الله تعالى في قوله : أحلف بالله كذلك ، فأما في قوله أحلف عنده لا يكون يمينا ، ولكنه وعد أن يحلف بهذا اللفظ .

( ولكنا ) نستدل بقوله تعالى : { يحلفون لكم لترضوا عنهم } وقال الله تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } فدل أن كل واحد منهما يمين ، سواء ذكر قوله بالله أو أطلق ; لأن الحلف في الظاهر يكون بالله وكذلك لو قال أشهد أو أشهد بالله فعند زفر رحمه الله تعالى قوله أشهد لا يكون يمينا ، بل يكون هذا اللفظ للشهادة ، فإذا قال بالله يمينا . ولكنا نقول : كل واحد من اللفظين يمين سواء ذكر قوله بالله أو أطلق قال الله تعالى : { قالوا نشهد إنك لرسول الله } إلى قوله { اتخذوا أيمانهم جنة } فقد سمى شهادتهم يمينا وقال الله تعالى : { أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } . واللعان يمين قال : صلى الله عليه وسلم { لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن } ; ولأن قول الشاهد بين يدي القاضي أشهد في معنى اليمين ، ولهذا عظم الوزر في شهادة الزور ; لأنه بمعنى اليمين الغموس وكذلك قوله أقسم أو أقسم بالله فعند زفر رحمه الله تعالى قوله أقسم لا يكون يمينا كقوله أحلف . ولكنا نستدل بقوله تعالى : { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون ، } والاستثناء في اليمين وقال الله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } وكذلك لو قال : أعزم أو أعزم بالله فإن العزم آكد ما يكون من العهد ، وذلك يكون باليمين وكذلك لو قال : علي نذر أو نذر لله قال : صلى الله عليه وسلم ( النذر يمين وكفارته كفارة اليمين ) وكذلك لو قال عهد الله علي فالعهد يمين قال الله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } معناه إذا حلفتم بدليل قوله تعالى { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وكذلك قوله : علي ذمة الله ; لأن الذمة عبارة عن العهد قال الله تعالى : { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } وقال : صلى الله عليه وسلم { إذا أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم } وأهل الذمة هم أهل العهد ، وكذلك لو قال هو يهودي ، أو نصراني ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام إن قربتك فهو مول . وعند الشافعي رضي الله عنه لا يكون موليا بهذه الألفاظ ; لأنه لا يلزمه عين ما التزم عند القربان فلا يلزمه غيره كما [ ص: 24 ] لو قال : هو مستحل الميتة إن قربتك ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه ، وهو بناء على مسألة تحريم الحلال ، فإن تحريم الحلال عندنا يمين فتحليل الحرام ، كذلك ، وتحريم الكفر باتة مصمتة ، فاستحلالها يمين لما علقه بالقربان بخلاف استحلال الميتة فإن حرمتها ليست بباتة ولكنها تنكشف عند الضرورة ، وسنقرر هذا الفصل في كتاب الأيمان . - إن شاء الله تعالى - .

وكذلك قوله : وعظمة الله أو وعزة الله أو وقدرة الله فهذا وقوله والله سواء ; لأن معنى كلامه : والله العظيم والله العزيز ، والله القادر وسنقرر حكم اليمين بصفات الله تعالى . وكذلك إن حلف على ذلك بعتق أو طلاق فهو مول ; لأنه لا يتمكن من قربانها في المدة بشيء لا يلزمه ; ولأن الشرط والجزاء يمين قال : صلى الله عليه وسلم ( من حلف بطلاق أو عتاق ) فقد سماه حالفا ، وكذلك إن حلف على ذلك بحج أو هدي أو عمرة أو صوم جعل لله عليه إن قربها ; لأنه يتحقق بهذا منع القربان حين علق بالقربان ما يكون ممتنعا من التزامه عادة وتلحقه مشقة في أدائه . وإذا قال والقرآن لا أقربك لا يكون موليا ; لأن الناس لم يتعارفوا الحلف بالقرآن ، والمعتبر في الأيمان العرف ، فكل لفظ لم يكن الحلف به متعارفا لا يكون يمينا ، وهذا اللفظ إنما يذكر في الكتاب خاصة وقد طعن عليه بعض الناس فقالوا : القرآن كلام الله تعالى ، والكلام صفة المتكلم فلماذا لم يجعل الحلف بهذه الصفة يمينا ؟ ولكنا نقول : كلام الله تعالى صفته ولكن الحلف به غير متعارف فكان هذا بمنزلة قوله وعلم الله . على ما نبينه في الأيمان . وعلى هذا الخلاف ما لو قال : هو بريء من القرآن إن قربتك فهو مول ; لأن البراءة من القرآن كفر فهو بمنزلة قوله : هو بريء من الإسلام إن قربتك ، وإن قال : والكعبة أو الصلاة ، أو الزكاة لا أقربك أو حلف على ذلك بشيء من طاعة الله ، أو بشيء من الحدود ، لا يكون موليا ; لأنه حلف بغير الله وهو منهي عنه ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما سمع عمر رضي الله تعالى عنه يقول : وأبي قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان حالفا فليحلف بالله أو فليذر } فدل أن الحلف بغير الله لا يكون يمينا شرعا ، وإن قال بالله لا أقربك فهو مول ، وحروف اليمين ثلاثة : الباء ، والواو ، والتاء . فأعمها الباء ، حتى تدخل في اسم الله وفي غير اسم الله تعالى وفي المضمر ، والمظهر .

والواو أخص منها فإنها تدخل في المظهر دون المضمر ، ولكنها تدخل في اسم الله ، وفي غير اسم الله تعالى ، والتاء أخص منها فإنها لا تدخل إلا في اسم الله تعالى مظهرا . قال الله تعالى : { وتالله لأكيدن أصنامكم } وكذلك لو قال وأيم الله ، أو [ ص: 25 ] لعمرو الله ; لأن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ ، وقيل معنى قوله وأيم الله أي وأيمن الله فيكون جمع اليمين ، ولعمرو الله أي والله الباقي ، وفي قوله لعمرك دليل على أن هذا اللفظ يمين ، وإن قال آلله لا أقربك فهو مول أيضا والكسرة في الهاء دليل على محذوف ، وهو القسم ولا يصدق في الحكم أنه لم يرد به الإيلاء ; لأنه خلاف الظاهر ، وإن قال قولا لا يقربها ولم يحلف لا يلزمه شيء هكذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، ولأن الله تعالى قال : { للذين يؤلون من نسائهم } والإيلاء يمين فبدون يمينه كان كلامه وعدا ، والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم فهو يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وإن حلف لا يقربها في مكان كذا أو في مصر كذا أو قال في أرض العراق لم يكن موليا عندنا وقال ابن أبي ليلى : هو مول ; لأنه قصد الإضرار والتعنت بيمينه فلزمه حكم الإيلاء ، ولكنا نقول : اليمين إذا وقتت بمكان توقتت به ، فهو يتمكن من قربانها في غير ذلك المكان في المدة من غير أن يلزمه شيء فلا يتحقق به منع حقها في الجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية