الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3434 [ 1426 ] وعن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ! فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم؛ دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ! فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.

                                                                                              وفي رواية قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ! " قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".


                                                                                              رواه البخاري (7084)، ومسلم (1847) (51 و 52).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول حذيفة " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر " يعني أنه كان أكثر مسائل الناس عن الخير وكانت أكثر مسائله عن الشر، وإلا فقد سأل غيره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير من الشر، وقد كان حذيفة أيضا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير من الخير.

                                                                                              والخير والشر المعنيان في هذا الحديث إنما هما استقامة أمر دين هذه الأمة والفتن الطارئة عليها، بدليل باقي الحديث وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك.

                                                                                              وقوله: " مخافة أن يدركني " يدل على حزم حذيفة وأخذه بالحذر؛ وذلك أنه كان يتوقع موت النبي صلى الله عليه وسلم فيتغير الحال وتظهر الفتن كما اتفق، وفيه دليل على فرض المسائل والكلام عليها قبل وقوعها إذا خيف موت العالم.

                                                                                              وقوله: " فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم " يعني به الفتن الطارئة بعد انقراض زمان الخليفتين والصدر من زمان عثمان كما تقدم.

                                                                                              [ ص: 56 ] وقوله: " فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن " بفتح الدال والخاء لا غير، وهو عبارة عن الكدر، ومنه قولهم: هدنة على دخن - حكى معناه أبو عبيد . وقيل: هي لغة في الدخان. ومنه الحديث: وذكر فتنة فقال: " دخنها تحت قدمي ".

                                                                                              وقيل: إن خبر حذيفة هذا إشارة إلى مدة عمر بن عبد العزيز .

                                                                                              قلت: وفيه بعد، بل الأولى أن الإشارة بذلك إلى مدة خلافة معاوية فإنها كانت تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهي مدة الهدنة التي كان فيها الدخن؛ لأنه لما بايع الحسن معاوية واجتمع الناس عليه كره ذلك كثير من الناس بقلوبهم وبقيت الكراهة فيهم، ولم تمكنهم المخالفة في مدة معاوية ولا إظهارها إلى زمن يزيد بن معاوية فأظهرها كثير من الناس. ومدة خلافة معاوية كان الشر فيها قليلا والخير غالبا، فعليهم يصدق قوله عليه الصلاة والسلام: " تعرف منهم وتنكر ". وأما خلافة ابنه فهي أول الشر الثالث؛ فيزيد وأكثر ولاته ومن بعده من خلفاء بني أمية هم الذين يصدق عليهم أنهم " دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها "، فإنهم لم يسيروا بالسواء ولا عدلوا في القضاء، يدل على ذلك تصفح أخبارهم ومطالعة سيرهم، ولا يعترض على هذا بمدة خلافة عمر بن عبد العزيز بأنها كانت خلافة عدل لقصرها وندورها في بني أمية ، فقد كانت سنتين وخمسة أشهر، فكأن هذا الحديث لم يتعرض لها، والله تعالى أعلم.

                                                                                              و " دعاة " جمع داع، كقضاة وقاض. و " قذفوه " رموه - يعني بذلك أن [ ص: 57 ] من وافقهم على آرائهم واتبعهم على أهوائهم كانوا قائديه إلى النار.

                                                                                              وقوله: " هم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " يعني بأنهم ينتمون إلى نسبه، فإنهم من قريش ويتكلمون بكلام العرب، وكذلك كانت أحوال بني أمية .

                                                                                              وقوله: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " يعني أنه متى اجتمع المسلمون على إمام فلا يخرج عليه وإن جار - كما تقدم، وكما قال في الرواية الأخرى: " فاسمع وأطع "، وعلى هذا فتشهد مع أئمة الجور الصلوات والجماعات والجهاد والحج، وتجتنب معاصيهم ولا يطاعون فيها.

                                                                                              وقوله: " فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام "، هذه إشارة إلى مثل الحالة التي اتفقت للناس عند موت معاوية بن يزيد بن معاوية ، فإنه توفي لخمس بقين من ربيع الأول سنة أربع وستين ولم يعهد لأحد، وبقي الناس بعده بقية ربيع الأول وجمادين وأياما من رجب من السنة المذكورة لا إمام لهم حتى بايع الناس بمكة لابن الزبير وفي الشام لمروان بن الحكم .

                                                                                              وقوله: " فاعتزل تلك الفرق كلها "، هذا أمر بالاعتزال عند الفتن، وهو على جهة الوجوب لأنه لا يسلم الدين إلا بذلك، وهذا الاعتزال عبارة عن ترك الانتماء إلى من لم تتم إمامته من الفرق المختلفة، فلو بايع أهل الحل والعقد [ ص: 58 ] لواحد موصوف بشروط الإمامة لانعقدت له الخلافة وحرمت على كل أحد المخالفة، فلو اختلف أهل الحل والعقد فعقدوا لإمامين كما اتفق لابن الزبير ومروان لكان الأول هو الأرجح كما تقدم.

                                                                                              وقوله: " يكون بعدي أمراء قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس "، هذا خبر عن أمر غيب وقع موافقا لمخبره، فكان دليلا على صحة رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                              و " الشياطين " جمع شيطان، وهو المارد من الجن الكثير الشر، وهل هو مأخوذ من شطن أي: بعد عن الخير والرحمة، أو من شاط يشيط إذا احتد واحترق غيظا؟ اختلف فيه النحويون، وعلى الأول فالنون أصلية فينصرف واحده، وعلى الثاني فهي غير أصلية فلا ينصرف. والجثمان والشخص والآل والطلل - كلها الجسم، على ما حكاه اللغويون.




                                                                                              الخدمات العلمية