الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 704 ] استيلاء الفرنج لعنهم الله على الإسكندرية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي العشر الأخير من شهر الله المحرم احتيط على الفرنج بمدينة دمشق ، وأودعوا في الحبوس في القلعة المنصورة ، واشتهر أن سبب ذلك أن مدينة الإسكندرية محاصرة بعدة شوان ، وذكر أن صاحب قبرس معهم ، وأن الجيش المصري صمدوا إلى حراسة مدينة الإسكندرية ، حرسها الله تعالى وصانها وحماها ، وسيأتي تفصيل أمرها في الشهر الآتي ، فإنه وضح لنا فيه ، ومكث القوم بعد الإسكندرية بأيام فيما بلغنا ، بعد ذلك حاصرها أمير من التتار يقال له : ماميه ، واستعان بطائفة من الفرنج ففتحوها قسرا ، وقتلوا من أهلها خلقا ، وغنموا شيئا كثيرا ، واستقرت عليها يد ماميه ملكا عليها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الجمعة سلخ هذا الشهر توفي الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية ببستانه بالمزة ، ونقل إلى عند والده بمقابر باب الصغير ، فصلي عليه بعد صلاة العصر بجامع جراح ، وحضر جنازته القضاة ، والأعيان ، وخلق من التجار والعامة ، وكانت جنازته حافلة ، وقد بلغ من العمر ثمان وأربعين سنة ، وكان بارعا فاضلا في النحو ، والفقه ، وفنون أخر على [ ص: 705 ] طريقة والده ، رحمهما الله تعالى ، وكان مدرسا بالصدرية ، والتدمرية ، وله تصدير بالجامع ، وخطابة بجامع ابن خليخان ، وترك مالا جزيلا يقارب المائة ألف درهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخل شهر صفر وأوله الجمعة ، أخبرني بعض علماء السير أنه اجتمع في هذا اليوم - مستهل هذا الشهر - الكواكب السبعة سوى المريخ في برج العقرب ، ولم يتفق مثل هذا من سنين متطاولة ، فأما المريخ فإنه كان قد سبق إلى برج القوس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيه ووردت الأخبار بما وقع من الأمر الفظيع بمدينة الإسكندرية من الفرنج ، لعنهم الله ، وذلك أنهم ، وصلوا إليها في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر الله المحرم ، فلم يجدوا بها نائبا ، ولا جيشا ، ولا حافظا للبحر ، ولا ناصرا ، فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار بعد ما حرقوا أبوابا كبيرة منها ، وعاثوا في أهلها فسادا; يقتلون الرجال ، ويأخذون الأموال ، ويأسرون النساء والأطفال ، فالحكم لله العلي الكبير المتعال ، وأقاموا بها يوم الجمعة ، والسبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، فلما كان صبيحة يوم الأربعاء قدم الشاليش المصري ، فأقلعت الفرنج - لعنهم الله - عنها وقد أسروا خلقا كثيرا يقاربون الأربعة آلاف ، وأخذوا من الأموال ذهبا ، وحريرا ، وبهارا ، وغير ذلك ما لا يحد ولا يوصف ، وقدم السلطان والأمير الكبير يلبغا ظهر يومئذ ، وقد تفارط الحال ، وتحولت الغنائم كلها إلى الشواني بالبحر ، فسمع للأسارى من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين - ما قطع الأكباد ، وذرفت له العيون ، [ ص: 706 ] وأصم الأسماع ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شق عليهم ذلك جدا ، وذكر ذلك الخطيب يوم الجمعة على المنبر ، فتباكى الناس كثيرا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النصارى من الشام جملة واحدة ، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية ، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج ، فأهانوا النصارى ، وطلبوا من بيوتهم بعنف ، وخافوا أن يقتلوا ، ولم يفهموا ما يراد بهم ، فهربوا كل مهرب ، ولم تكن هذه الحركة شرعية ، ولا يجوز اعتمادها شرعا ، وقد طلبت يوم السبت السادس عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة ، وكان اجتماعنا بعد العصر يومئذ بعد الفراغ من لعب الكرة ، فرأيت منه أنسا كثيرا ، ورأيته كامل الرأي والفهم ، حسن العبارة ، كريم المجالسة ، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى ، فقال : إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك ، فقلت له : هذا مما لا يسوغ شرعا ، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا ، ومتى كانوا باقين على الذمة ، يؤدون إلينا الجزية ، ملتزمين بالذلة والصغار ، وأحكام الملة قائمة - لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد الفرد فوق ما يبذلونه من الجزية ، ومثل هذا لا يخفى على الأمير ، فقال : كيف أصنع وقد ورد المرسوم بذلك ، ولا يمكنني أن أخالفه ؟ وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرس من الإرهاب ، ووعيد العقاب ، وأنه يجوز ذلك ، وإن لم يفعل ما يتوعدهم به ، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام : ائتوني بالسكين أشقه نصفين كما هو الحديث مبسوط في " الصحيحين " ، فجعل [ ص: 707 ] يعجبه هذا جدا ، وذكر أن هذا كان في قلبه ، وأني كاشفته بهذا ، وأنه كتب به مطالعة إلى الديار المصرية ، وسيأتي جوابها بعد عشرة أيام ، فتجيء حتى تقف على الجواب ، وظهر منه إحسان ، وقبول وإكرام زائد ، رحمه الله . ثم اجتمعت به في دار السعادة في أوائل شهر ربيع الأول ، فبشرني أنه قد رسم بعمل الشواني والمراكب لغزو الفرنج ، ولله الحمد والمنة . ثم في صبيحة يوم الأحد طلب النصارى الذين اجتمعوا في كنيستهم إلى بين يديه ، وهم قريب من أربعمائة ، فحلفهم : كم أموالهم ؟ وألزمهم بأداء الربع من أموالهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد أمروا إلى الولاة بإحضار من في معاملتهم ، ووالي البر قد خرج إلى القرايا بسبب ذلك ، وجردت أمراء إلى النواحي لاستخلاص الأموال من النصارى في القدس وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي أول شهر ربيع الأول كان سفر قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي إلى القاهرة . وفي يوم الأربعاء خامس ربيع الأول اجتمعت بنائب السلطنة بدار السعادة ، وسألته عن جواب المطالعة ، فذكر لي أنه جاء المرسوم الشريف السلطاني بعمل الشواني والمراكب; لغزو قبرس ، وقتال الفرنج ، ولله الحمد والمنة ، وأمر نائب السلطنة بتجهيز القطاعين ، والنشارين من دمشق إلى الغابة التي بالقرب من بيروت ، وأن يشرع في عمل الشواني . وفي آخر يوم من هذا الشهر - وهو يوم الجمعة - فتحت دار القرآن التي وقفها الشريف التفتازاني إلى جانب حمام الكاس شمالي المدرسة البادرائية ، وعمل فيها [ ص: 708 ] وظيفة حديث ، وحضر عند واقفها يومية قاضي القضاة تاج الدين السبكي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية