الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 112 ] فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب

تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل " أتاها " هنا و " جاءها " هناك . و " إني أنا الله " هنا ، و " إنه أنا الله " هناك بضمير عائد إلى الجلالة هنالك ، وضمير الشأن هنا ، وهما متساويان في الموقع ؛ لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم . وقوله هنا " رب العالمين " وقوله هنالك " العزيز الحكيم " . وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ .

والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل ؛ لأن وصف رب العالمين يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة .

" وأن ألق " هنا و " ألق " هناك ، و " اسلك " هنا و " أدخل " هناك . وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها ، وإلا زيادة من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وهذا واد في سفح الطور . وشاطئه : جانبه وضفته .

ووصف الشاطئ بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع ، وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار ويريدون هذا المعنى ، قال امرؤ القيس :


على قطن بالشيم أيمن صوبه وأيسره على الستار فيذبل

وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين ، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل ، أي جهة مغرب الشمس من الطور . [ ص: 113 ] ألا ترى أنهم سموا اليمن يمنا ؛ لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة ، وسموا الشام شاما ؛ لأنه على شام المستقبل لبابها ، أي على شماله ، فاعتبروا استقبال الكعبة ، وهذا هو الملائم لقوله الآتي وما كنت بجانب الغربي .

وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى وواعدناكم جانب الطور الأيمن فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك .

وإن حمل على أنه تفضيل من اليمن ، وهو البركة فهو كوصفه بـ المقدس في سورة النازعات إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى .

والبقعة بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها .

والمباركة لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى . وقوله من الشجرة يجوز أن يتعلق بفعل " نودي " فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون " من " للابتداء ، أي سمع كلاما خارجا من الشجرة . ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا نعتا ثانيا للواد أو حالا فتكون " من " اتصالية ، أي متصلا بالشجرة ، أي عندها ، أي البقعة التي تتصل بالشجرة .

والتعريف في الشجرة تعريف الجنس ، وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة ، وليس التعريف للعهد إذا لم يتقدم ذكر الشجرة ، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العليق ( وهو من شجر العضاه ) وقيل هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضا . وزيادة " أقبل " وهي تصريح بمضمون قوله " لا تخف " في سورة النمل ؛ لأنه لما أدبر خوفا من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله ، فكان الكلام هنالك إيجازا وكان هنا مساواة تفننا في حكاية القصتين ، وكذلك زيادة إنك من الآمنين هنا ولم يحك في سورة النمل ، وهو تأكيد لمفاد " ولا تخف " . وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد بـ " إن " وجعله من جملة الآمنين ، فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال : إنك آمن كما تقدم في قوله تعالىأن أكون من الجاهلين في سورة البقرة .

وقوله " واضمم إليك جناحك من الرهب " خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه ، واعتكرت محامل كلماته فما [ ص: 114 ] استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى . وهي ألفاظ : جناح ، ورهب ، وحرف " من " . فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر . وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري . قال بعضهم : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وإن قوله " من الرهب " متعلق بقوله " ولى مدبرا " على أن " من " حرف للتعليل ، أي أدبر لسبب الخوف ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل " ولى " وبين " من الرهب " .

وقيل الجناح : اليد ، ولا يحسن أن يكون مجازا عن اليد ؛ لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله اسلك يدك في جيبك وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد . وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد ، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد . وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان . وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه ، وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن . ولذا فالوجه أن قوله " واضمم إليك جناحك " تمثيل بحال الطائر بدلا من أن تطير خوفا . وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل وأصله لأبي علي الفارسي . والرهب معروف أنه الخوف كقوله تعالى يدعوننا رغبا ورهبا .

والمعنى : انكفف عن التخوف من أمر الرسالة . وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون فقوله " واضمم إليك جناحك من الرهب " في معنى قوله تعالى فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون .

وقرأ الجمهور ( الرهب ) بفتح الراء والهاء ، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء . وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية