الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ نافع والكسائي " أرجه " بغير همز وكسر الهاء والإشباع ، وقرأ عاصم وحمزة " ارجه " بغير الهمز وسكون الهاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " أرجئه " بالهمز وضم الهاء ، ثم إن ابن كثير [ ص: 162 ] أشبع الهاء على أصله ، والباقون لا يشبعون . قال الواحدي - رحمه الله - : " أرجه " مهموز وغير مهموز لغتان ، يقال : أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته ، ومنه قوله تعالى : ( وآخرون مرجون ) [ التوبة : 106 ] ( ترجي من تشاء ) [ الأحزاب : 51 ] قرئ في الآيتين باللغتين ، وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز وسكون الهاء . فقال الفراء : هي لغة العرب يقفون على الهاء المكنى عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                            فيصلح اليوم ويفسده غدا



                                                                                                                                                                                                                                            قال : وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون : هذه طلحه قد أقبلت ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                            لما رأى أن لا دعه ولا شبع



                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال الواحدي : ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس . وقال الزجاج : هذا شعر لا نعرف قائله ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له : أخطأت .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في تفسير قوله : ( أرجه ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : الإرجاء : التأخير فقوله : ( أرجه ) أي أخره . ومعنى أخره : أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم ، فتصير عجلتك حجة عليك ، والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ؛ ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قول الكلبي وقتادة ( أرجه ) احبسه . قال المحققون : هذا القول ضعيف لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن فرعون ما كان قادرا على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وأرسل في المدائن حاشرين ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان ، وإلا لم يصح قوله : ( وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ) ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارضة ، وأنها إذا أمكنت فلا نبوة ، وإذا تعذرت فقد صحت النبوة ، وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه فقد سبق الاستقصاء فيه في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي أنه قال : اختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أنها فعيلة ؛ لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا ، إذا أقام به ، وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن ، وهي فعائل ، كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة ، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع ، كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أنها مفعلة ، وعلى هذا الوجه ، فمعنى المدينة المملوكة ، من دانه يدينه ، فقولنا : مدينة من دان ، مثل معيشة ، من عاش ، وجمعها مداين على مفاعل ، كمعايش غير مهموز ، ويكون اسما للمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 163 ] والقول الثالث : قال المبرد : مدينة أصلها مديونة ، من دانه إذا قهره وساسه ، فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها ، واجتمع ساكنان : الواو المزيدة التي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو ؛ لأنها زائدة ، وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كسروا الدال لتسلم الياء ، فلا تنقلب واوا لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء ، وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل . ثم قال الواحدي : والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ( وأرسل في المدائن حاشرين ) يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالا يحشروا إليك ما فيها من السحرة . قال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ، ونقل القاضي عن ابن عباس ، أنهم كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلا مجوسيا من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام ، وهي قرية بالموصل . وأقول : هذا النقل مشكل ؛ لأن المجوس أتباع زرادشت ، وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية