الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل.

وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوه، ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما يتبين كذبهم فيما ينقلونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من البدع والأقوال الباطلة.

ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء. ويكون أولئك العقلاء طائفة من [ ص: 206 ] أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة.

فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟.

وكذلك قال أبو يوسف القاضي: من طلب الدين بالكلام تزندق. وكذلك قال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة.

وكثير من هؤلاء قرأوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابها.

فإن ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاته بدعة، لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن الله ليس بجوهر.

ولفظ "الجسم" لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إن الله مثل بدن الإنسان فهو مفتر على الله، ومن قال: إن الله يماثله شيء من المخلوقات فهو مفتر على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثله شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إن الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل [ ص: 207 ] القرآن العربي مخلوق أو تصنيف جبريل ونحو ذلك فهذا مفتر على الله فيما نفاه عنه.

وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسم، بل نقول: إن الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته، فيقولون: ليس لله علم ولا حياة ولا قدرة ولا كلام ولا سمع ولا بصر، ولا يرى في الآخرة، ولا عرج بالنبي إليه، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء، ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقرآن، بل القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطلة الفرعونية الجهمية.

والله تعالى يقول في كتابه: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار أي لا تحيط به، فكما أنه يعلم ولا يحاط به علما، فكذلك سبحانه يرى ولا يحاط به رؤية. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم ينف الرؤية، ونفي الإدراك يدل على عظمته، وأنه من عظمته لا يحاط به. وأما نفي الرؤية فلا مدح فيه، فإن المعدومات لا ترى، ولا مدح لشيء من المعدومات، بل المدح إنما يكون بالأمور الثبوتية لا بالأمور العدمية، وإنما يحصل المدح بالعدم إذا تضمن ثبوتا، كقوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ، فنزه نفسه عن السنة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته، [ ص: 208 ] كما قال تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت ، فهو سبحانه حي لا يموت، قيوم لا ينام. وكذلك قوله تعالى: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ، فنزه نفسه المقدسة عن مس اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبين كمال قدرته.

فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب، موصوف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزه عن الموت والجهل والعجز والصمم والعمى والبكم، وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات الكمال، وهو منزه عن كل نقص وعيب، فإنه قدوس سلام يمتنع عليه النقائص والعيوب بوجه من الوجوه، وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات كماله، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصف به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فقوله: ليس كمثله شيء رد على الممثلة، وقوله: وهو السميع البصير رد على المعطلة.

قال بعض العلماء: المعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما، [ ص: 209 ] المعطل أعمى، والممثل أعشى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا . والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فأهل السنة وسط في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

التالي السابق


الخدمات العلمية