الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكرا بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة، قال الحرالي: ولما كان ما أظهره الحق في آية عظمته وما اتصل بها في خاصة عباده اختص هذا الخطاب بالنبي صلى الله عليه وسلم لعلو مفهوم مغزاه عمن دونه، انتهى. فقال تعالى: ألم تر أي تعلم بما نخبرك [ ص: 48 ] به علما هو عندك كالمشاهدة لما لك من كمال البصيرة وبما أودعناه فيك من المعاني المنيرة. ولما كان هذا المحاج بعيدا من الصواب كثيف الحجاب أشار إلى بعده بحرف الغاية فقال: إلى الذي حاج إبراهيم أي الذي هو أبو العرب وهم أحق [الناس] بالاقتداء به في ربه الضمير يصح أن يعود على كل منهما أي فيما يختص به خالقه المربي له المحسن إليه بعد وضوح هذه الأدلة وقيام هذه البراهين إشارة إلى أنه سبحانه أوضح على لسان كل نبي أمره وبين عظمته وقدره مع أنه ركز ذلك في جميع الفطر وقادها إلى بحور جلاله بأدنى نظر فكأن نمرود المحاج للخليل ممن أخرجته الشياطين من النور إلى الظلمات، [ ص: 49 ] ولما كان ذلك أمرا باهرا معجبا بين أن علته الكبر الذي أشقى إبليس فقال: أن أي لأجل أن آتاه الله أي الملك الأعلى بفيض فضله الملك الفاني في الدنيا الدنيئة، فجعل موضع ما يجب عليه من شكر من ملكه ذلك محاجته فيه وكبره زعم عليه، وعرفه إشارة إلى كماله بالنسبة إلى الآدميين بالحكم على جميع الأرض. قال الحرالي: وفي إشعاره أن الملك فتنة وبلاء على من أوتيه. انتهى. فتكبر بما خوله الله فيه على عباد الله وهم يطيعونه لما مكن الله له من الأسباب إلى أن رسخت قدمه في الكبر المختص بالملك الأعظم مالك الملك ومبيد الملوك فظن جهلا أنه أهل له.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر سبحانه وتعالى بمحاجته بين ما هي تقريرا لآية فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم دلالة على البعث ليوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة فقال: إذ أي حاجه حين قال إبراهيم ربي أي الذي أحسن إلي بخلقي وإدامة الهداية [لي] [ ص: 50 ] الذي يحيي ويميت أي وحده، وهذه العبارة تدل على تقدم كلام في هذا وادعاء أحد لمشاركة في هذه الصفة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان كأنه قيل: هذا أمر ظاهر مجمع عليه فماذا الذي يحاج المحاج فيه؟ أجيب بقوله: قال أي ذلك المحاج بجرأة وعدم تأمل لما ألفه من ذل الناس له وطواعيتهم لجبروته أنا أي أيضا أحيي وأميت بأن أمن على من استحق القتل وأقتل من لا يستحق القتل.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قد اجترأ على عظيم وأن محاجته في نفس الإحياء ربما خفيت أو طالت رأى أن يعجل إبهاته مع بيان حقارته بما هو أجلى من ذلك، وفيه أنه دون ما ادعاه بمراتب لأن الإحياء إفاضة الروح على صورة بعد إيجادها من العدم بأن [ ص: 51 ] قال إبراهيم وقال الحرالي: ولما كان من حسن الاحتجاج ترك المراء بمتابعة الحجة الملبسة كما قال تعالى فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا نقل المحاج من الحجة الواقعة في الأنفس إلى الحجة الواقعة في الآفاق بأعظم كواكبها الشمس سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ففي ظاهر الاحتجاج انتقال وفي [طيه تقرير الأول لأن الروح شمس البدن فكأنه ضرب مثل من حيث أن الإحياء إنما هو أن يؤتى بشمس الروح من حيث غربت فكان في ظاهر واستقبال حجة قاطعة] باطنه تتميم للحجة الأولى قال تعالى: فإن بالفاء الرابطة بين الكلامين إشعارا لتتمة الحجة الأولى بالحجة الثانية. انتهى. أي تسبب عن دعواك هذه أو أقول لك: إن الله بما له من العظمة والجلال باستجماع صفات الكمال يأتي بالشمس أي وهو الذي أوجدها من المشرق أي في كل يوم من قبل أن توجد أنت بدهور فأت بها أنت من المغرب ولو يوما واحدا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 52 ] قال الحرالي: إظهارا لمرجع العالم بكليته إلى واحد، وأن قيوم الإنسان في الإحياء والإماتة هو قيوم الآفاق في طلوع الشمس وغروبها، وفي لحنه إشعار بأن الله سبحانه وتعالى لا بد وأن يأتي بالشمس من المغرب ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء حتى يطلعها من حيث غربت كما يطلع الروح من حيث قبضت ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة قيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها. انتهى. فبهت قال الحرالي: من البهت وهو بقاء الشيء على حاله وصورته لا يتغير عنها لأمر يبهره وقعه أي فتسبب عن ذلك أنه بهت الذي كفر أي حصل له الكفر بتلك الدعوى التي لزمه بها إنكاره لاختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على ذلك وادعاؤه لنفسه الشركة، فبين له الخليل عليه الصلاة والسلام [بهذا المثال] أنه عاجز عن تحويل صورة صورها الله سبحانه وتعالى ووضعها في جهة [إلى] غير تلك الجهة فكيف له بأن يوجد صورة من العدم فكيف ثم كيف بإفاضة الروح عليها فكيف بالروح الحساسة فكيف بالروح الناطقة! وسيأتي لهذا الشأن في سورة الشعراء مزيد بيان، فيالله ما أعلى مقامات الأنبياء! وما أصفى بصائرهم! وما أسمى درجاتهم وأزكى عناصرهم! عليهم أجمعين مني أعظم الصلاة والسلام وأعلى [ ص: 53 ] التحية والإكرام. وقال الحرالي: فعرفه أي في قوله: كفر بوصفه من حيث دخل عليه البهت منه. انتهى. أي لأنه ستر ما يعلمه من عجز نفسه وقدرة خالقه، فكشف سبحانه وتعالى بلسان خليله صلى الله عليه وسلم الستر الذي أرخاه كشفا واضحا وهتكه بعظيم البيان هتكا فاضحا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: لأنه ظلم في ادعائه ذلك وفي الوجه الذي ادعى ذلك بسببه من قتل البريء وترك المجترئ، قال سبحانه وتعالى: والله أي الذي لا أمر لأحد معه لا يهدي القوم أي الذين أعطاهم قوة المقاومة للأمور الظالمين عامة لوضعهم الأشياء بإرادته وتقديره في غير مواضعها، لأنه أظلم قلوبهم فجعلها أحلك من الليل الحالك فلم يبق لهم [ذلك] وجها ثابتا يستمسكون به، فأين منهم الهداية وقد صاروا بمراحل عن مواطن أهل العناية! وقصر فعل الهداية لإفادة العموم، قال الإمام: فاختصر اللفظ إفادة لزيادة المعنى وهو من اللطائف القرآنية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية