الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نـزلهم يوم الدين

                                                                                                                                                                                              قال الله عز وجل: ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نـزلهم يوم الدين

                                                                                                                                                                                              والنزل هو ما يعد للضيف عند قدومه، فدلت هذه الآيات على أن أهل النار يتحفون عند دخولها بالأكل من شجرة الزقوم والشرب من الحميم، وهم إنما يساقون إلى جهنم عطاشا، كما قال تعالى: ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا قال أبو عمران الجوني : بلغنا أن أهل النار يبعثون عطاشا ثم يقفون مشاهد القيامة عطاشا، ثم قرأ: ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا قال مجاهد في تفسير هذه الآية: متقطعة أعناقهم عطشا . وقال مطر الوراق : عطاشا: ظماء .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة الطويل: "إنه يقال [ ص: 333 ] لليهود والنصارى: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنهما سراب يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار" .

                                                                                                                                                                                              وقال أيوب عن الحسن: ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أجوافهم جوعا، ثم انصرف بهم إلى النار فيسقون من عين آنية قد آن حرها واشتد نضجها .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن المبارك بإسناده عن كعب ، قال: إن الله ينظر إلى عبده يوم القيامة وهو غضبان، فيقول: خذوه، فيأخذه مائة ألف ملك أو يزيدون . فيجمعون بين ناصيته وقدميه غضبا لغضب الله، فيسحبونه على وجهه إلى النار، قال: فالنار أشد عليه غضبا من غضبهم سبعين ضعفا . قال: فيستغيث بشربة، فيسقى شربة يسقط منها لحمه وعصبه، ثم يركس - أو يدكس - في النار، فويل لها من النار .

                                                                                                                                                                                              قال ابن المبارك : حدثت عن بعض أهل المدينة أنه يتفتت في أيديهم إذا أخذوه فيقول: ألا ترحموني، فيقولون: كيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين .

                                                                                                                                                                                              وروى الأعمش عن مالك بن الحارث ، قال: إذا طرح الرجل في النار هوى فيها، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل: مكانك حتى تتحف، قال: فيسقى كأسا من سم الأساود والعقارب، فيتميز الجلد على حدة، والشعر على حدة، والعصب على حدة، والعروق على حدة . خرجه ابن أبي حاتم . وروى محمد بن سليمان بن الأصبهاني، عن أبي سنان ضرار بن مرة، [ ص: 334 ] عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم فلفحتهم لفحة، فلم تدع لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب " خرجه الطبراني ورفعه منكر، فقد رواه ابن عيينة عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل أو غيره من قوله لم يرفعه . ورواه محمد بن فضيل عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة من قوله في قوله تعالى: لواحة للبشر قال: تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة، فلا تترك لحما على عظم إلا وضعته على العراقيب .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              وأما شرابهم فقال الله تعالى: فشاربون عليه من الحميم وقال تعالى: وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال تعالى: لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا وقال تعالى: هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج وقال تعالى: ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه وقال تعالى: وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا فهذه أربعة أنواع ذكرناها من شرابهم، وقد ذكرها الله في كتابه: النوع الأول: الحميم - قال عبد الله بن عيسى الخراز، عن داود، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الحميم الحار الذي يحرق . [ ص: 335 ] وقال الحسن والسدي : الحميم الذي قد انتهى حره .

                                                                                                                                                                                              وقال جويبر عن الضحاك : يسقى من حميم يغلي من يوم خلق الله السماوات والأرض إلى يوم يسقونه ويصب على رؤوسهم .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن وهب عن ابن زيد : الحميم دموع أعينهم في النار يجتمع في حياض النار فيسقونه . وقال تعالى: يطوفون بينها وبين حميم آن

                                                                                                                                                                                              قال محمد بن كعب : حميم آن: حاضر، وخالفه الجمهور، فقالوا: بل المراد بالآن: ما انتهى حره .

                                                                                                                                                                                              وقال شبيب، عن عكرمة ، عن ابن عباس : حميم آن: الذي قد انتهى غليه .

                                                                                                                                                                                              وقال سعيد بن بشير عن قتادة : قد آن طبخه، منذ خلق الله السماوات والأرض، وقال تعالى: تسقى من عين آنية قال مجاهد : قد بلغ حرها، وحان شربها .

                                                                                                                                                                                              وعن الحسن، قال: كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حره حتى لا يكون شيء أحر منه: قد آن حره، فقال الله عز وجل: من عين آنية يقول: قد أوقد الله عليها جهنم منذ خلقت، وآن حرها . وعنه قال: آن طبخها منذ خلق الله السموات والأرض .

                                                                                                                                                                                              وقال السدي : انتهى حرها، فليس بعده حر . وقد سبق حديث أبي الدرداء ، في دفع الحميم إليهم بكلاليب الحديد .

                                                                                                                                                                                              النوع الثاني: الغساق - قال ابن عباس : الغساق: ما يسيل من بين جلد [ ص: 336 ] الكافر ولحمه . وعنه قال: الغساق: الزمهرير البارد، الذي يحرق من برده .

                                                                                                                                                                                              وعن عبد الله بن عمرو قال: الغساق: القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهرق في المغرب، لأنتنت أهل المشرق، ولو أهرقت في المشرق، لأنتنت أهل المغرب .

                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد : غساق: الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده . وقال عطية: هو ما يغسق من جلودهم - يعني يسيل من جلودهم .

                                                                                                                                                                                              وقال كعب : غساق: عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة، من حية وعقرب وغير ذلك، فيستنقع; فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام; ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه، ويجر لحمه، كما يجر الرجل ثوبه .

                                                                                                                                                                                              وقال السدي : الغساق: الذي يسيل من أعينهم من دموعهم، يسقونه مع الحميم .

                                                                                                                                                                                              وروى دراج، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لو أن دلوا من غساق، يهرق في الدنيا، لأنتن أهل الدنيا" خرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه .

                                                                                                                                                                                              وقال بلال بن سعد : لو أن دلوا من الغساق، وضع على الأرض، لمات من عليها . وعنه قال: لو أن قطرة منه، وقعت على الأرض، لأنتن من فيها . خرجه أبو نعيم . [ ص: 337 ] وقد صرح ابن عباس في رواية عنه، ومجاهد ، بأن الغساق ههنا هو البارد الشديد البرد . ويدل عليه قوله تعالى: لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فاستثنى من البرد الغساق ومن الشراب الحميم . وقد قيل: إن الغساق هو البارد المنتن، وليس بعربي . وقيل: إنه عربي، وإنه فعال من غسق يغسق، والغاسق: الليل، وسمي غاسقا لبرده .

                                                                                                                                                                                              النوع الثالث: الصديد: - قال مجاهد في قوله تعالى: ويسقى من ماء صديد

                                                                                                                                                                                              قال: يعني القيح والدم، وقال قتادة : ويسقى من ماء صديد قال: ما يسيل من بين لحمه وجلده; قال: يتجرعه ولا يكاد يسيغه قال قتادة : هل لكم بهذا يدان، أم لكم على هذا صبر؟ طاعة الله أهون عليكم - يا قوم - فأطيعوا الله ورسوله . وخرج الإمام أحمد والترمذي ، من حديث أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: ويسقى من ماء صديد يتجرعه قال: يقرب إلى فيه فيكرعه، فإذا أدني منه، شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه; فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى يخرج من دبره، يقول الله تعالى: وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال: وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا

                                                                                                                                                                                              وروى أبو يحيى القتات، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: في جهنم أودية من قيح تكتاز ثم تصب في فيه .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن على الله عهدا لمن شرب المسكرات ليسقيه من طينة الخبال " . قالوا: يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار أو عصارة أهل النار .

                                                                                                                                                                                              وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، إلا أنه ذكر ذلك في المرة الرابعة، وفي بعض الروايات "من عين الخبال " . وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر نحوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه قال: "من نهر الخبال " . قيل: يا أبا عبد الرحمن ما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار . وقال: حديث حسن . وخرج أبو داود من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقال: "من طينة الخبال " قيل: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: "صديد أهل النار" . وفي رواية أخرى قال: "ما يخرج من زهومة أهل النار وصديدهم " . وخرج الإمام أحمد بمعناه أيضا من حديث أبي ذر وأسماء بنت يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وخرج الإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه " من حديث أبي موسى [ ص: 339 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وهو مدمن خمر سقاه الله من نهر الغوطة"، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: "نهر يخرج من فروج المومسات يؤذي أهل النار نتن فروجهم " .

                                                                                                                                                                                              وقد سبق حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتكبرين وفيه: "يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال " .

                                                                                                                                                                                              النوع الرابع: الماء الذي كالمهل، خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: كالمهل قال: "كعكر الزيت، فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه " . قال عطية: سئل ابن عباس عن قوله: كالمهل قال: غليظ كدردي الزيت، قال علي بن أبي طالب عن ابن عباس : أسود كمهل الزيت; وكذا قال سعيد بن جبير وغيره . قال الضحاك : أذاب ابن مسعود فضة من بيت المال ثم أرسل إلى أهل المسجد، فقال: من أحب أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا .

                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد : بماء كالمهل: مثل القيح والدم أسود كعكر الزيت .

                                                                                                                                                                                              وخرج الطبراني من طريق تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن غربا جعل من حميم جهنم وجعل وسط الأرض لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب " .

                                                                                                                                                                                              وفي موعظة الأوزاعي للمنصور قال: بلغني أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 340 ] " لو أن ذنوبا من شراب جهنم صب في ماء الأرض جميعا لقتل من ذاقه " .

                                                                                                                                                                                              خرج بعض المتقدمين فمر بكروم بقرية يقال لها: طيزناباد، وكأنه كان يعصر فيها الخمر، فأنشد يقول:

                                                                                                                                                                                              بطيزناباد كرم ما مررت به . إلا تعجبت ممن يشرب الماء



                                                                                                                                                                                              فهتف به هاتف يقول:


                                                                                                                                                                                              وفي جهنم ماء ما تجرعه .     حلق فأبقى له في البطن أمعاء



                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية