الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى :( الذي له ملك السماوات والأرض ) فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم : إني رسول الله إليكم ، أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة .

                                                                                                                                                                                                                                            الأصل الأول : إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا . والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى :( الذي له ملك السماوات والأرض ) وذلك لأن أجسام السماوات والأرض ، تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم ، وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير ، وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل ؛ لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده ، أو إن حصل له مؤثر ، لكن كان ذلك المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ، لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والأصل الثاني : إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند ، وإليه الإشارة بقوله :( لا إله إلا هو ) وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل ؛ لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان ، وأرسل أحد الإلهين نبيا إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقا له ، بل كان مخلوقا للإله الثاني ، وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته ، فكانت بعثة الرسول إليه ، وإيجاب الطاعة عليه ظلما وباطلا . أما إذا ثبت أن الإله واحد ، فحينئذ يكون جميع الخلق عبيدا له ، ويكون تكليفه في الكل نافذا ، وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازما ، فثبت أن ما لم [ ص: 25 ] يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكاليف جائزا .

                                                                                                                                                                                                                                            والأصل الثالث : إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر ، والبعث والقيامة ؛ لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك ، كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا ، وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله :( يحيي ويميت ) لأنه لما أحيا أولا ، ثبت كونه قادرا على الإحياء ثانيا ، فيكون قادرا على الإعادة والحشر والنشر ، وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاما عظيما ، فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية ؛ ليكون قيامه بتلك الطاعة قائما مقام الشكر عن الإحياء الأول ، وأيضا لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني ، فحينئذ يكون قادرا على إيصال الجزاء إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة . ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ، ومطالبة الخلق بالتكاليف ؛ لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه ، وأيضا إنه منعم على الكل بأعظم النعم ، وأيضا إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم ، وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام في أنه يحسن منه تكليف الخلق ، أما بحسب السبب الأول ، فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ، وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة ، وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة ، فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل ، ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف ، فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلها حيا عالما قادرا ، وعلى أن هذا الإله واحد ، وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية