الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      القعنبي : حدثنا محمد بن هلال ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : خرجت يوما من بيتي إلى المسجد ، فوجدت نفرا ، فقالوا : ما أخرجك ؟ قلت : الجوع . فقالوا : ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع .

                                                                                      فقمنا ، فدخلنا على رسول الله ، فقال : ما جاء بكم هذه الساعة " ؟ فأخبرناه ; فدعا بطبق فيه تمر ، فأعطى كل رجل منا تمرتين . فقال : كلوا هاتين التمرتين ، واشربوا عليهما من الماء ، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا .

                                                                                      فأكلت تمرة ، وخبأت الأخرى ، فقال : يا أبا هريرة ، لم رفعتها ؟ [ ص: 593 ] قلت : لأمي . قال : كلها ، فسنعطيك لها تمرتين
                                                                                      .

                                                                                      عكرمة بن عمار : حدثنا أبو كثير السحيمي - واسمه : يزيد بن عبد الرحمن - : حدثني أبو هريرة ، قال : والله ، ما خلق الله مؤمنا يسمع بي إلا أحبني . قلت : وما علمك بذلك ؟ قال : إن أمي كانت مشركة ، وكنت أدعوها إلى الإسلام ، وكانت تأبى علي ، فدعوتها يوما ; فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما أكره . فأتيت رسول الله ، وأنا أبكي ، فأخبرته ، وسألته أن يدعو لها . فقال : اللهم اهد أم أبي هريرة . فخرجت أعدو أبشرها ، فأتيت ، فإذا الباب مجاف ، وسمعت خضخضة الماء ، وسمعت حسي ، فقالت : كما أنت ، ثم فتحت ، وقد لبست درعها ، وعجلت عن خمارها ، فقالت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .

                                                                                      قال : فرجعت إلى رسول الله ، أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن ; فأخبرته ، وقلت : ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين . فقال : اللهم ، حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين ، وحببهم إليهما
                                                                                      .

                                                                                      إسناده حسن .

                                                                                      الجريري ، عن أبي نضرة ، عن الطفاوي ، قال : نزلت على أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر ، فلم أر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجلا أشد تشميرا ولا [ ص: 594 ] أقوم على ضيف ، من أبي هريرة .

                                                                                      فدخلت عليه ذات يوم ، وهو على سريره ، ومعه كيس فيه نوى - أو حصى - أسفل منه سوداء ، فيسبح ، ويلقي إليها ، فإذا فرغ منها ، ألقى إليها الكيس ; فأوعته فيه ، ثم ناولته ; فيعيد ذلك .

                                                                                      وقيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر العلاء بن الحضرمي ، وبعث معه أبا هريرة مؤذنا .

                                                                                      وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة .

                                                                                      قال محمد بن المثنى الزمن : حدثنا أبو بكر الحنفي : حدثنا عبد الله بن أبي يحيى : سمعت سعيد بن أبي هند ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك ؟ قلت : أسألك أن تعلمني . مما علمك الله . فنزع نمرة كانت على ظهري ، فبسطها بيني وبينه ، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها ; فحدثني ، حتى إذا استوعبت حديثه ، قال : اجمعها فصرها إليك فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني .

                                                                                      ابن شهاب ، عن سعيد ، وأبي سلمة : أن أبا هريرة قال : إنكم تقولون : إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتقولون : ما [ ص: 595 ] للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله ! وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم ; وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة ، ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني ، فأحضر حين يغيبون ، وأعي حين ينسون ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حديث يحدثه يوما : إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي ، ثم يجمع إليه ثوبه ، إلا وعى ما أقول .

                                                                                      فبسطت نمرة علي ، حتى إذا قضى مقالته ، جمعتها إلى صدري . فما نسيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تلك من شيء
                                                                                      .

                                                                                      الزهري - أيضا- عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : تزعمون أني أكثر الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد ، إني كنت امرأ مسكينا ، أصحب رسول الله على ملء بطني ، وإنه حدثنا يوما ، وقال : من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي ، ثم قبضه إليه ، لم ينس شيئا سمع مني أبدا ، ففعلت . فوالذي بعثه بالحق ، ما نسيت شيئا سمعته منه والحديثان صحيحان محفوظان . [ ص: 596 ]

                                                                                      قرأت على ابن عساكر ، عن أبي روح : أخبرنا محمد بن إسماعيل : أخبرنا أبو مضر محلم بن إسماعيل : أخبرنا الخليل بن أحمد : حدثنا السراج : حدثنا قتيبة : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قلت : يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث : إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصا من نفسه

                                                                                      أبو الأحوص ، عن زيد العمي ، عن أبي الصديق ، عن أبي سعيد الخدري : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أبو هريرة وعاء من العلم .

                                                                                      ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته في الناس ; وأما الآخر ، فلو بثثته ، لقطع هذا البلعوم . [ ص: 597 ] الأعمش ، عن أبي صالح ، قال : كان أبو هريرة من أحفظ الصحابة .

                                                                                      محمد بن راشد ، عن مكحول ، قال : كان أبو هريرة يقول : رب كيس عند أبي هريرة لم يفتحه . يعني : من العلم .

                                                                                      قلت : هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول ، أو الفروع ; أو المدح والذم ; أما حديث يتعلق بحل أو حرام ، فلا يحل كتمانه بوجه; فإنه من البينات والهدى . وفي " صحيح " البخاري : قول الإمام علي ، رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ; أتحبون أن يكذب الله ورسوله ! وكذا لو بث أبو هريرة [ ص: 598 ] ذلك الوعاء ، لأوذي ، بل لقتل . ولكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياء للسنة ، فله ما نوى وله أجر- وإن غلط - في اجتهاده .

                                                                                      روى عوف الأعرابي ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أكثر حديثا من أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وإن مروان - زمن هو على المدينة - أراد أن يكتب حديثه كله فأبى ، وقال : ارو كما روينا .

                                                                                      فلما أبى عليه ، تغفله مروان ، وأقعد له كاتبا ثقفا ، ودعاه ، فجعل أبو هريرة يحدثه ، ويكتب ذاك الكاتب ، حتى استفرغ حديثه أجمع .

                                                                                      ثم قال مروان : تعلم أنا قد كتبنا حديثك أجمع ؟ قال : وقد فعلت ؟ قال : نعم . قال : فاقرءوه علي ، فقرءوه . فقال أبو هريرة : أما إنكم قد حفظتم ، وإن تطعني تمحه . قال : فمحاه .

                                                                                      سمعه هوذة بن خليفة منه .

                                                                                      حماد بن زيد : حدثني عمرو بن عبيد الأنصاري : حدثني أبو الزعيزعة - كاتب مروان - : أن مروان أرسل إلى أبي هريرة ، فجعل يسأله ، وأجلسني خلف السرير ، وأنا أكتب ، حتى إذا كان رأس الحول ، دعا به ، فأقعده من وراء الحجاب ، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب ، فما زاد ولا نقص ، ولا قدم ولا أخر .

                                                                                      قلت : هكذا فليكن الحفظ .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية