الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1509 1586 - حدثنا بيان بن عمرو، حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم". فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه. قال يزيد: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل. قال جرير: فقلت له: أين موضعه؟ قال أريكه الآن. فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان فقال: ها هنا. قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. [انظر: 126- مسلم: 1333 - فتح: 3 \ 439]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              مثابة : مجمعا، أو من الثواب، أو مرجعا، أو لا يقضون فيه وطرا، وأصلها; مثوبة، وقرئ (مثابات). وأمنا أي; يأمن من دخله، وكان معاذا له. قال تعالى: ومن دخله كان آمنا [آل عمران: 97] وكان الرجل منهم لو لقي قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، ولم يعرض له حتى يخرج منه. قال تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [العنكبوت: 67] وحديث: "إن إبراهيم حرم مكة" المراد:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 288 ] أظهر حرمتها، وإلا فهي حرام منذ خلق الله السموات والأرض كما ستعلم، فهو آمن من عقوبة الله، وعقوبة الجبابرة، وسأل إبراهيم أن يؤمنه من الجدب والقحط، دليله: عند بيتك المحرم [إبراهيم: 37] وقيل: بل كانت حلالا قبل دعائه، وهو حرمها كما حرم نبينا المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [البقرة: 125] قيل: هو المقام الذي يصلي فيه الأئمة اليوم، وقيل: الحج كله مقام إبراهيم. قاله ابن عباس وعطاء . ومصلى أي: مدعى، قاله مجاهد ، والأظهر: الصلاة. وعهدنا أمرنا وأوحينا. طهرا بيتي أي: من الآفات والريبة، أو من الأوثان، أو من الشرك. للطائفين ببيتي، والعاكفين : المجاورين، أو أهل البلد. و القواعد : الأساس، والجدر. مناسكنا : ذبائحنا أو متعبداتنا. وأرنا : بكسر الراء وإسكانها.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر فيه خمسة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث جابر بن عبد الله: لما بنيت الكعبة ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على رقبتك. فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، فقال: "أرني إزاري". فشده عليه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 289 ] ولفظ زكريا بن إسحاق في أول كتاب الصلاة: فقال له العباس: ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله، فجعله على منكبه، فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا. وسلف شرحه هناك في باب: كراهة التعري في الصلاة وغيرها ، ورواه الإسماعيلي بلفظ: لما بنت قريش الكعبة ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على رقبتك من الحجارة، ففعل، فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: قد جعل عبد الرزاق وضع الإزار على رقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعه أبو عاصم ، وجعل البرساني الإزار على رقبة العباس.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: أخرجه مسلم من طريق محمد بن بكر كرواية عبد الرزاق .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: هذا الحديث مرسل صحابي; لأنه من المعلوم أنه لم يكن ثم، ولا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله. قلت: مرسله حجة إلا من شذ كما سلف هناك، وقد رواه سماك عن عكرمة عن مولاه، حدثني أبي العباس، فذكره. أخرجه البيهقي في "دلائله"، وفيه: "نهيت أن أمشي عريانا" ، وأخرجه ابن جرير في "تهذيبه" أيضا. ولابن إسحاق: حدثني والدي عمن حدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيما يذكر من حفظ الله تعالى إياه: "إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على [ ص: 290 ] أعناقنا لحجارة ننقلها، إذ لكمني لاكم لكمة شديدة" ثم قال: "اشدد عليك إزارك" . ويجوز أن يكون المراد بقول ابن عباس: أول شيء رآه من النبوة أن قيل له: استتر، وهو غلام . هذا وفي خبر آخر ذكره السهيلي، أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن نفسه، فأخبره أنه نودي من السماء: أن اشدد عليك إزارك يا محمد. قال: وإنه لأول ما نودي.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "طبقات محمد بن سعد" من حديث ابن عباس وغيره، قالوا: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم الحجارة -يعني للبيت- وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلبط -أي: سقط من قيام- ونودي: عورتك. وكان ذلك أول ما نودي، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، اجعل إزارك على رأسك. فقال: "ما أصابني ما أصابني إلا في تعدي" . وليس في الحديث- كما قال ابن الجوزي- دلالة على كشف عورة، وإنما فيه كشف الجسد، وهو الظاهر، وفي رواية: أن الملك نزل فشد عليه إزاره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 291 ] وطمحت عيناه: شخصت وارتفعت. قال ابن سيده: طمح ببصره يطمح طمحا: شخص، وقيل: رمى به إلى الشيء، ورجل طماح: بعيد الطرف .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("أرني إزاري")، قال ابن التين: ضبط بإسكان الراء وبكسرها، والإسكان أحسن عند بعض أهل اللغة; لأن معناه أعطني، وليس معناه الرؤيا، وإنما قال: ناولني إزاري. ووقع في "شرح ابن بطال": إزاري، إزاري مكررا . ومعناه صحيح إن ساعدت الرواية ولم نره.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال في الصلاة: لو كان نهي عن التعري مطلقا لكان نهيا عن التعري للغسل في الموضع الذي أمن أن يراه فيه أحد إلا الله تعالى، ولكنه نهي عن التعري حيث يراه أحد، ولذلك نهى عن دخول الحمام بغير مئزر .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث القاسم عن أبي أمامة مرفوعا "لو أستطيع أن أواري عورتي من شعاري لواريتها" إن صح فمحمول على الندب، وكذا قول علي: إذا كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك ، وكذا قول أبي موسى الأشعري: إني لأغتسل في البيت المظلم، فما أقيم صلبي حياء من [ ص: 292 ] ربي . فمحمولان أيضا على الندب، والمبالغة في الحياء والستر، وكل هذا أسلفناه هناك، وأعدناه لبعد العهد به.

                                                                                                                                                                                                                              ثم اعلم أن الرب جل جلاله ذكر فضل مكة في غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه جل جلاله فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، أو لم يقبل من أحد صلاة إلا باستقبالها، وهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتا. وفي حديث عائشة معرفة بنيان قريش للكعبة، وقد بناها إبراهيم قبل ذلك، وبنته الملائكة قبل آدم، وحجه آدم ثم الأنبياء، ما من نبي إلا حجه، وفي "الروض" أول من بناه شيث، وكانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء، يطوف بها آدم ويأنس بها; لأنها أنزلت من الجنة ، وقيل: إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين; لأن السيل كان قد صدع حائطه. قال: وقيل: لم يكن بنيانا إنما كان إصلاحا لما وهى منه، وجدارا بني بينه وبين السيل، بناه عامر الجادر.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "أنساب الزبير": لما بنى قصي الكعبة بنيانا لم يبن مثله أحد; ذكر شعرا، وبناها عبد الله بن الزبير لما كانت عائشة ترويه; ولأنه لما نصب عليها المنجنيق الحصين بن بشر وهت جدرانها، وقيل: بل طارت شررة من مجمره في أستارها فاحترقت، فلما أمر عبد الملك بهدمها وبناها الحجاج على البناء الأول، أخبر عبد الملك أبو سلمة وغيره عن عائشة ما كان عمدة ابن الزبير في هدمها، فندم لذلك، وقال: ليتنا تركناه وما تولى، فلما ولي أبو جعفر أراد أن يهدمها ويردها إلى بناء ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك فتركه، وفي [ ص: 293 ] "صحيح الحاكم"، وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث ابن عمر مرفوعا: "استمتعوا من هذا البيت، فإنه هدم مرتين ويرفع في الثالثة" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال عطاء -فيما حكاه ابن جريج-: إن آدم قال: أي رب، إني لا أسمع أصوات الملائكة. فقال: اهبط إلى الأرض فابن لي بيتا ثم احفف به، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء، قال: فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، ولبنان .

                                                                                                                                                                                                                              فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم، وعن عبد الله بن عمرو: لما أهبط آدم قال: إني مهبط معك أو منزل معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عليه كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء يحجون ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله لإبراهيم وأعلمه بمكانه، فبناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، وجبل الخمر ، قال الطبري: هو جبل الشام، وعن قتادة: ذكر لنا أنه بني من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان، وجودي، وحراء. وذكر لنا أن قواعده من حراء . وعن عطاء: لما أهبط آدم كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله، فخفضه [ ص: 294 ] إلى الأرض، فلما بعد ما كان يسمع منهم استوحش، فشكى إلى الله، فوجه إلى مكة، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به، فلما كان الطوفان رفع الله تلك الياقوتة حتى بعث الله إبراهيم فبناه ، وعن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة أو درة واحدة . وقال مجاهد: كان موضع البيت على الماء قبل خلق السماوات والأرض مثل الزبدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض .

                                                                                                                                                                                                                              وقال عمرو بن دينار: بعث الله رياحا، فصفقت الماء، فأبرزت موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها، فلذلك هي أم القرى .

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان قبل خلق الدنيا بألفي عام ، وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ لإبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، ومعه إسماعيل وأمه، وهو طفل يرضع، وحملوا على البراق، ومعه جبريل يدله على مواضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: أمضه حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر، وبها أناس يقال: لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، [ ص: 295 ] فقال إبراهيم لجبريل: أها هنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق: ويزعمون -والله أعلم- أن ملكا من الملائكة أتى هاجر قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، فأشار لهما إلى البيت، وهو ربوة حمراء، فقال لهما: هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه .

                                                                                                                                                                                                                              قال مجاهد: خلق الله موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة . وقال كعب: كان البيت غثاء على الماء قبل أن تخلق الأرض بأربعين سنة .

                                                                                                                                                                                                                              وعن علي أن إبراهيم أقبل من أرمينية ومعه السكينة تدله حتى تبوأ البيت، كما تبوأ العنكبوت بيتا، فرفعت من أحجار يطيقه أو لا يطيقه ثلاثون رجلا، قيل لابن المسيب رواية عنه: فإن الله تعالى يقول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت [البقرة: 127] قال: كان ذلك بعد .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 296 ] وفي كتاب "التيجان": لما عتت قوم نوح وهدموا الكعبة، قال تعالى له: انتظر الآن هلاكهم إذا فار التنور. وقال ابن عباس: كان إبراهيم يبني، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته . وعن السدي: أخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحا يقال لها: الخجوج لها جناحان ورأس، في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة، وعن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، فلما بنيا القواعد، وبلغا مكان الركن، قال: يا إسماعيل، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هنا، قال: يا أبت إني لغب، قال: علي ذلك، وانطلق يطلب حجرا، فجاء جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة، ولما جاءه إسماعيل بحجر قال: يا أبت من جاء بهذا؟ قال: من هو أنشط منك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال علي: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، فلما قدم رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على ظلي، أو على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل مع أمه، فقالت: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق; فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا. قال: فصعدت هاجر الصفا فنظرت، فلم تر شيئا، ثم أتت المروة فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا ففعلت ذلك سبعا، فقالت لولدها: مت حيث لا أراك، فناداها جبريل: من أنت؟ قالت: هاجر أم ولد إبراهيم، قال: إلى من [ ص: 297 ] وكلكما؟ قالت: إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف، ففحص الأرض بإصبعه; فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه، فإنها رواء .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن هشام في "التيجان": كان إبراهيم وإسماعيل يبنيان، وهاجر تسقي لهما الماء من زمزم، وتعجن لهما الطين وتعينهما، قال: وإن إبراهيم سار إلى القدس بإسماعيل وهاجر; ليسكنهما فيه، فإذا كان وقت الحج يحجون من بيت المقدس إلى البيت الذي بناه. فلما نزل بالقدس أري أن يذبح إسماعيل، فخرج به إلى الطور، وهاجر تقول: أحد أحد صمد لم يلد ولم يولد، رب ولدي كبدي اربط على قلبي بالصبر، فلما فدي بالكبش، قال لها إبراهيم: كلي من كبده يهدئ روعك، فأول من أكل منه هاجر، ثم إبراهيم وإسماعيل. قال وهب: الذبيح إسماعيل، ثم ولد بعده إسحاق، على ما في القرآن العظيم، فلما كان وقت الحج حج إبراهيم من بيت المقدس، ومعه إسماعيل وهاجر، وأمر الله أن يؤذن في الناس بالحج، فأذن ثم صار إلى بابل. وذكر الواقدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: أن إبراهيم نصب أنصاب الحرم، يريه جبريل، ثم جددها إسماعيل، ثم قصي، ثم سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث عام الفتح رجلا من خزاعة فجددها، ثم عمر.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عباس: أن جبريل أرى إبراهيم موضع أنصاب الحرم، فنصبها ثم جددها إسماعيل إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 298 ] وروى الجندي من طريق ميمون بن مهران، عن ابن عباس رفعه: "كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من ياقوت الجنة، له بابان من زمرد أخضر: باب شرقي، وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون منه إلى يوم القيامة حذاء البيت الحرام، ولما أهبط آدم إلى موضع الكعبة، وهو مثل الفلك من شدة رعدته، وأنزل عليه الحجر الأسود يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه استئناسا به، ثم أخذ الله تعالى من بني آدم ميثاقهم، فجعله في الحجر ثم أنزل على آدم العصا، ثم قال: يا آدم، تخط فتخطى، فإذا هو بأرض الهند، فمكث ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: احجج يا آدم، فلما قدم مكة تلقته الملائكة، فقالت: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، فقال: ما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فكان آدم إذا طاف قالهن، وكان يطوف سبعة أسابيع بالليل، وخمسة أسابيع بالنهار، وقال: رب اجعل لهذا البيت عمارا يعمرونه من ذريتي، فأوحى الله جل وعز أني معمره نبيا من ذريتك اسمه إبراهيم، أقضي على يده عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه مواقفه، وأعلمه مناسكه" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الدلائل" للبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخطه لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أصابه الماء فنودي من تحت: حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، [ ص: 299 ] وهذا أول بيت" . ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه.

                                                                                                                                                                                                                              قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا ، وقال أبو الطفيل:

                                                                                                                                                                                                                              كانت الكعبة قبل أن تبنيها قريش برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق، وتوضع الكسوة على الجدر، ثم تدلى، ثم إن سفينة للروم انكسرت بالشعيبة، فأخذت قريش خشبها، وروميا -يقال له: باقوم- نجار، بأن يبنيها، ونقلوا الحجارة من أجياد .

                                                                                                                                                                                                                              وعن علي: فلما بناه إبراهيم مر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ شاب. صحح الحاكم أصل هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن شهاب: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، فلما اختلفوا في وضع الركن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه، فأمر بثوب .. الحديث. وفيه: فوضعه هو في مكانه، [ ص: 300 ] ثم طفق لا يزداد على السر إلا رضي حتى دعوه الأمين . ولموسى بن عقبة: كان بنيانها قبل النبوة بخمس عشرة سنة ، وكذا روي عن مجاهد وجماعات .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الطبقات": كانت الجرف مظلة على الكعبة، وكان السيل يدخل من أعلاها حتى يدخل البيت، فانصدع فخافوا أن ينهدم، وسرق منه حية وغزال من ذهب كان عليه در وجوهر، فأقبلت سفينة فيها روم رأسهم باقوم، وكان بانيا، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر فابتاعوا خشبها، وكلموا باقوم فقدم معهم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي كتاب الأزرقي: جعل إبراهيم طول بناء الكعبة في السماء تسعة أذرع، وطولها في الأرض ثلاثين ذراعا، وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعا، وكانت بغير سقف، ولما بنتها قريش جعلوا طولها ثمانية عشر ذراعا في السماء، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرا تركوها في الحجر، ولما بناها ابن الزبير جعل طولها في السماء سبعة وعشرين ذراعا، فلم يغير الحجاج طولها حين هدمها، وهو إلى الآن .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أهل السير أن قريشا لما ابتنت الكعبة وبلغت موضع الركن اختصمت في الركن: أي القبائل تلي رفعه؟ قالوا: تعالوا نحكم أول [ ص: 301 ] رجل يطلع علينا، فطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكموه وسموه الأمين، وكان في ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين فيما ذكر ابن إسحاق. فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه - عليه السلام - بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه، وكان الذي أشار بتحكيم أول رجل يطلع عليهم أبو أمية بن المغيرة والد أم سلمة أم المؤمنين، وكان عامئذ أسن قريش كلها .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بناء ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن (لا) تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني: حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ ". فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم; قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت". فقال عبد الله: لئن كانت عائشة: سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث ذكره كذلك في التفسير ، واختلف في إسناده كما [ ص: 302 ] قال ابن الحذاء فقال بعضهم: عن سالم، عن عائشة، وقال بعضهم: عبد الله بن أبي بكر. ورواه ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن نافع: سمعت عبيد الله بن أبي بكر يحدث ابن عمر، عن عائشة، والصحيح رواية مالك، عن محمد، يعني المذكور هنا وهناك.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ("اقتصروا"): لم يستوعبوا. يعني: قريشا حين بنوا البيت الذي كان لها، وهذا البناء شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سلف، ووضعت قريش الحجر الأسود في حائطه بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم بذلك البنيان الذي اقتصرت فيه قريش على بعض القواعد وتركت شيئا منها خارجا عن بنيانها، وسبب ذلك قصر النفقة الحلال بهم كما ستعلمه بعد.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"): يريد أنهم لقرب عهدهم بالجاهلية فربما أنكرت نفوسهم خراب الكعبة، ونفرت قلوبهم، فيوسوس لهم الشيطان ما يقيض شيئا في دينهم، وهو كان يريد ائتلافهم وتثبيتهم على الإسلام، وقد بوب عليه البخاري باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه ، فرأى ترك ذلك، وأمر باستيعاب البيت بالطواف; لقربه إلى سلامة أحوال الناس، وإصلاح أديانهم; لأن استيعاب بنيانه ليس من الفروض، ولا من أركان الشريعة التي لا تقام إلا به، وهو ممكن مع بقائه على حالته. ومن طاف ببعض البيت لم يجزئه عند مالك والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 303 ] وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة أعاد طوافه . وقال ابن بطال عنه: قضى ما بقي عليه، وإن تباعد ورجع إلى بلده جبره بالدم . وأجزأه إذا طاف بالحجر طوافا واحدا، دليلنا: قوله تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج: 29] وهذا يقتضي الطواف بجميعه، ومن طاف بالحجر فإنما يطوف بالبعض.

                                                                                                                                                                                                                              وقول ابن عمر: (لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد إن كان عبد الله بن محمد بن أبي بكر سلم من السهو في نقله عن عائشة، وكانت عائشة سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك ..) إلى آخره، فأخبر ابن عمر أنه - عليه السلام - ترك استلامها، ومقتضاه: أنه قصد تركهما، وإلا فلا يسمى تاركا في عرف الاستعمال من أراد شيئا فمنعه منه مانع، فكأن ابن عمر علم ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم علته، فلما أخبره عبد الله بن محمد بخبر عائشة هذا عرف علة ذلك، وهو كونهما ليسا على القواعد، بل أخرج منه بعض الحجر، فلم يبلغ به ركن البيت الذي في تلك الجهة، فالركنان اللذان اليوم من جهة الحجر لا يستلمان كما لا يستلم سائر الجدر; لأنه حكم يختص بالأركان، وسيأتي عن عروة ومعاوية استلام الكل، وأنه ليس من البيت شيء مهجورا .

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن الزبير أيضا ، وذكر ذلك عن جابر، وابن عباس، [ ص: 304 ] والحسن، والحسين.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: لا يستلم إلا الركن الأسود خاصة ولا يستلم اليماني; لأنه ليس بسنة، فإن استلمه فلا بأس، دليلنا ما في الكتاب. وسيأتي ذكر استلام الأركان في موضعه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديثها أيضا: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: "نعم". قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: "إن قومك قصرت بهم النفقة". قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: "فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض".

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف ما فيه قبله، والجدر: الجدار، وأرادت الحجر: بكسر الحاء. قال الخطابي: وضبطه بفتح الدال في البخاري، والذي ذكر أهل اللغة سكونها، وكذا في بعض روايات البخاري، وكذا قال الجوهري: الجدر والجدار: الحائط .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس: الجدار: الحائط، والجدر: أصل الحائط، والجدرة: حي من الأزد بنوا جدار الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (فما شأن بابه مرتفعا) .. إلى آخره، وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: سمعت الوليد بن عطاء يحدث عن الحارث، عن ابن [ ص: 305 ] عبد الله بن ربيعة، عن عائشة: أنه - عليه السلام - قال لها: "وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ " قالت: لا. قال: "تعززا; لئلا يدخلها إلا من أرادوا، وكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط" .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن الناس غير محجوبين عن البيت، متى شاءوا دخلوه، ولكنه تركه على ما كان وسلم مفتاحه لبني عبد الدار، وقال: "خذوها خالدة تالدة" ، فأما ما يأخذه حجابه من جعل على فتح بابه ورؤية الحجر الذي قام عليه إبراهيم ونحوه، فليس بسائغ، وإنما أجرهم في تحصينه وتجميره، وتطييبه، وقد روي في قوله تعالى: فأن لله خمسه [الأنفال: 41] أنه للكعبة ، والجمهور أنه ذكر للتبرك.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع: حديثها أيضا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم، فإن قريشا استقصرت بناءه وجعلت له خلفا" وقال أبو معاوية: ثنا هشام: خلفا يعني: بابا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 306 ] الحديث الخامس: حديثها أيضا، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم وأدخلت فيه ما أخرج منه .. " الحديث بطوله.

                                                                                                                                                                                                                              تعليق أبي معاوية أسنده مسلم عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية . والحديث الثاني: هو من رواية جرير بن حازم، ثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عنها. أخرجه الإسماعيلي من حديث أحمد بن الأزهر، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت يزيد بن رومان يحدث عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، فذكره، ثم قال: كان يزيد بن رومان رواه عن عبد الله وعروة ابني الزبير إن كان ابن الأزهر حفظه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: ولم يضبط "أساس" بفتح الهمزة، ولا بكسرها، ويحتمل أن يكون بفتحها، ويكون واحدا، وهو أصل البناء كما قاله ابن فارس ، وعن صاحب "الصحاح ": أنه جمع أس . ويحتمل أن يكون بكسرها، وهو جمع إس، عن صاحب "الصحاح".

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال: الجدر: واحد الجدور وهي الحواجز التي بين السواقي التي تمسك الماء .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "بابا"، يريد أي: من خلفه، يدخل الناس من وجهه، ويخرجون من خلفه، و "خلفا" بإسكان اللام. "وجعلت له" بضم التاء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: في كتاب أبي الحسن بفتح اللام وسكون التاء عطفا [ ص: 307 ] على فعل قريش، وليس ببين، والصحيح: سكونها مع ضم التاء، على أنه فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معطوفا على "لبنيت".

                                                                                                                                                                                                                              وقول عروة: (حجارة كأسنمة الإبل). قد أسلفنا عن قتادة أن قواعده من حراء.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها). قد اختلفت الروايات فيه، وسيأتي إن شاء الله ما فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن الحجر من البيت، وإذا كان كذلك فإدخاله واجب في الطواف. وقد اختلف العلماء فيمن سلك في الحجر في طوافه، فكان عطاء ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور يقولون: يبني على ما طاف قبل أن يسلك فيه، ولا يعتد بما طاف في الحجر . وفصل أبو حنيفة كما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              واحتج المهلب وأخوه له فقالا: إنما عليه أن يطوف بما بني من البيت; لأن الحكم للبنيان لا للبقعة; لقوله تعالى: وليطوفوا الآية [الحج: 29] فأشار إلى البناء، والبقعة دون البناء لا تسمى بيتا. والشارع إنما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامة، وإنما علمها عمر إرادة استكمال البيت، ذكره عبيد الله بن أبي يزيد وعمرو بن دينار في باب: بنيان الكعبة في آخر مناقب الصحابة ، كما ستعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 308 ] قالا: ولم يكن حول البيت حائط، إنما كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر، فبنى حوله حائطا جدره قصير، فبناه ابن الزبير; ولذلك كان الطواف قبل تحجير عمر حول البيت الذي قصرته قريش عن القواعد، كما قال تعالى: وطهر بيتي للطائفين [البقرة: 125] والطواف فرضه البيت المبني، ولو كان ذراعا منه، وقد حج الناس من زمن الشارع إلى زمن عمر فلم يأمر أحدا بالرجوع من بلده إلى استكمال البيت. وقد قال مالك: من حلف أن لا يدخل دار فلان فهدمت فدخلها أنه لا يحنث. فهذا دال أن الدار والبيت إنما يختص بالبنيان لا بالبقعة.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب: ومعنى ما سلف أنه لم يكن حول البيت حائط، أي حائط يحجز الحجر من سائر المسجد، حتى حجزه عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجدر الذي كان علامة للناس، بل زاد ووسع قطعا للشك أن الجدر على آخر قواعدإبراهيم، فلما لم يكن عند عمر أن ذلك الجدر هو آخر قواعد إبراهيم التي رفعها إبراهيم وإسماعيل على يقين ونقل كافة، مع معرفته أن قريشا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشي أن يكون الجدر من بنيان قريش القديم، فزاد في الفسحة استبراء للشك، ووسع الحجر حتى صار الجدر في داخل الحجر.

                                                                                                                                                                                                                              وقد بان هذا في حديث جرير، وهو قوله: (فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها)، والحائط الذي بناه عمر حول الحجر ليس بحائط مرتفع، هو من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف خارجه نحو أربعة أذرع إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الذي ظهر من الأساس مرتفعا، إنما كان علامة كالنجم والهدف لا بنيانا. والحجة لمالك ومن تبعه كما سلف، وإخبار الشارع أن البيت قصر به [ ص: 309 ] عن القواعد ولم يتم عليها لمن طاف في الحجر جعل طائفا ببعضه; لأن البيت يضم ما خط آدم، وبناه إبراهيم. وقد قال عمر وابنه عبد الله: لولا أن الحجر من البيت ما طفت به. وقال ابن عباس: الحجر من البيت، قال تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج: 29] ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف من وراء الحجر . يدل على أنه إجماع.

                                                                                                                                                                                                                              ومن لم يستوف الطواف بالبيت وجب أن لا يجزئه كما لو فتح بابا في البيت فطاف وخرج منه .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية