الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5762 وقال المكي: حدثنا عبد الله بن سعيد، ح حدثني محمد بن زياد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا [ ص: 162 ] عبد الله بن سعيد قال: حدثني سالم أبو النضر، مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة، أو حصيرا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، فتتبع إليه رجال، وجاؤوا يصلون بصلاته، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " فخرج إليهم مغضبا"، والغضب في أمر الله واجب; لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام الإجماع على أن ذلك فرض على الأئمة أن يقوموا به، ويأخذوا على أيدي الظالمين، وينصفوا المظلومين ويحفظوا أمور الشريعة حتى لا تتغير، ولا تنتهك. والمكي هو ابن إبراهيم؛ قال الكرماني: المكي منسوب إلى مكة المشرفة، قلت: هذا اسمه وليس بنسبة، وقد أخرج هذا الحديث من طريقين: أولهما معلق عن مكي بن إبراهيم عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاري، وقد وصله أحمد والدارمي في مسنديهما عن المكي بن إبراهيم بتمامه. والآخر: مسند أخرجه عن محمد بن زياد، بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف، ابن عبيد الله بن الربيع بن زياد الزيادي البصري.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عساكر: روى عنه البخاري كالمقرون بغيره، وروى عنه ابن ماجه، مات سنة اثنين وخمسين ومائتين، كذا بخط الدمياطي؛ وفي التهذيب: في حدود سنة خمسين ومائتين، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ومحمد بن جعفر هو غندر. وعبد الله ابن سعيد قال: حدثني سالم أبو النضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة. وبسر، بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وبالراء، المديني، يروي عن زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري.

                                                                                                                                                                                  والحديث مضى في الصلاة عن عبد الأعلى بن حماد، ومضى الكلام فيه هناك. قوله: " وحدثني محمد بن زياد"؛ فيه التحديث بصيغة الإفراد، وما قبله حرف (ح) إشارة إلى التحويل من إسناد إلى إسناد آخر، وقال الكرماني: أو إشارة إلى الحديث، أو إلى صح، أو إلى الحائل. قوله: " احتجر" بالحاء المهملة وبالجيم والراء؛ أي: اتخذ لنفسه حجرة، وقال ابن الأثير: يقال حجرت الأرض واحتجرتها؛ إذا ضربت عليها منارا تمنعها به عن غيرك. قوله: " حجيرة" تصغير حجرة، وهو الموضع المنفرد، ويروى: " حجيرة" بفتح الحاء وكسر الجيم. قوله: " مخصفة" بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة المفتوحة وبالفاء، وهي المعمولة بالخصفة، وهي ما يجعل به جلال التمر من السعف ونحوه، ويروى: "بخصفة" بحرف الجر الداخل على الخصفة.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: الخصفة والحصير بمعنى واحد، والمعنى: احتجر حجرة؛ أي: حوط موضعا من المسجد بحصير يستره؛ ليصلي فيه ولا يمر عليه أحد، ويتوفر عليه فراغ القلب. وقال ابن بطال: " حجيرة مخصفة"؛ يعني ثوبا أو حصيرا اقتطع به مكانا من المسجد، واستتر به، وأراه يقال: خصفت على نفسي ثوبا؛ أي: جمعت بين طرفيه بعود أو خيط. قوله: " أو حصيرا" شك من الراوي. قوله: " فتتبع إليه"؛ أي: إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، من التتبع وهو الطلب، ومعناه: طلبوا موضعه واجتمعوا إليه. قوله: " ثم جاؤوا ليلة"؛ أي: ليلة ليصلوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يخرج إليهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب؛ أي: رموه بالحصباء، وهي الحصى الصغيرة. قوله: " فخرج"؛ أي: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم حال كونه مغضبا، وسبب غضبه أنهم اجتمعوا بغير أمره، ولم يكتفوا بالإشارة منه؛ لكونه لم يخرج إليهم، وبالغوا حتى حصبوا بابه، وقيل: كان غضبه لكونه تأخر إشفاقا عليهم; لئلا يفرض عليهم، وهم يظنون غير ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: إنما غضب عليهم; لأنهم صلوا في مسجده الخاص بغير إذنه، وقال [ ص: 163 ] بعضهم: وأبعد من قال: صلوا في مسجده بغير إذنه. قلت: غمز به على الكرماني، ولا بعد فيه أصلا، بل الأقرب هذا على ما لا يخفى. قوله: " ما زال بكم"؛ أي: ملتبسا بكم صنيعكم، أي: مصنوعكم، والمراد به صلاتهم. قوله: " حتى ظننت"؛ أي: حتى خفت من الظن بمعنى الخوف هنا. قوله: " سيكتب عليكم"؛ أي: سيفرض عليكم فلا تقوموا بحقه فتعاقبوا عليه. قوله: " إلا المكتوبة"؛ أي: الفريضة، وفيه: أن أفضل النافلة ما كان منها في البيوت، وعند الستر عن أعين الناس إلا ما كان من شعار الشريعة كالعيد. وحكى ابن التين عن قوم أنه يستحب أن يجعل في بيته من فريضة، والحديث يرد عليه، فإن قلت: ورد قوله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" قلت: هو محمول على النافلة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية