الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1516 1593 - حدثنا أحمد، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم، عن الحجاج بن حجاج، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عتبة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليحجن البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج". تابعه أبان وعمران عن قتادة. وقال عبد الرحمن: عن شعبة قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت". والأول أكثر، سمع قتادة عبد الله وعبد الله أبا سعيد. [فتح: 3 \ 454]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث أبي هريرة: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة من طريقين: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض [ ص: 332 ] رمضان، وكان يوما تستر فيه الكعبة، فلما فرض الله رمضان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه".

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا أحمد، ثنا أبي، ثنا إبراهيم، عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عتبة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليحجن البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج" قال أبو عبد الله: سمع قتادة عبد الله، وعبد الله أبا سعيد، تابعه أبان وعمران، عن قتادة. وقال عبد الرحمن، عن شعبة: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت". والأول أكثر.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              أما الآية فقوله: ( قياما ) أي: قواما لدينهم، وعصمة لهم، وقياما للناس لو تركوه عاما لم ينظروا أن يهلكوا أو يقومون بشرائعها والشهر الحرام لا يقاتلون فيه وهو: رجب أو ذو القعدة، أو الأشهر الحرم، والهدي كل ما يهدى للبيت من شيء، أو ما يقلد من النعم، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده، والقلائد قلائد الهدي، أو كانوا إذا حجوا تقلدوا من (لحاء) الشجر ليأمنوا في ذهابهم وإيابهم، أو كانوا يأخذون لحاء سمر الشجر إذا خرجوا فيتقلدونه ليأمنوا، فنهوا عن نزع شجر الحرم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض الآية، ومجانسته هذا للأول أن الذي ألهمهم هذا يعلم ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 333 ] وحديث أبي سعيد من أفراده، وله من حديث ابن عباس يأتي بعد أيضا: "كأني به أسود أفحج ينقلها حجرا حجرا" .

                                                                                                                                                                                                                              وأحمد (خ. د. س) السالف هو ابن حفص بن عبد الله بن راشد السلمي مولاهم، قاضي نيسابور، مات سنة ستين، كذا بخط الدمياطي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره; ثمان وخمسين ومائتين، وهو ما في "الكاشف" .

                                                                                                                                                                                                                              وإبراهيم هو ابن طهمان، وحجاج هو الأحول الثقة مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله ألقاب: الأسود، وزق العسل، والعسلي، وقيل: هما اثنان، وعبد الله هو مولى أنس، مصري صدوق، ولأبي داود الطيالسي من حديث أبي هريرة بإسناد جيد: "يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم يجيء الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده، وهم الذين يستخرجون كنزه" . ولأبي نعيم بسند فيه مجهول: "كأني أنظر إلى أصيلع أفدع أفحج على ظهر الكعبة يهدمها بالكرزنة".

                                                                                                                                                                                                                              ولأحمد من حديث ابن عمرو: "يسبيها حليها ويجردها من [ ص: 334 ] كسوتها، وكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" .

                                                                                                                                                                                                                              ولابن الجوزي من حديث حذيفة مرفوعا: "خراب مكة من الحبشة على يد حبشي، أفحج الساقين، أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، معه أصحابه، ينقضونها حجرا حجرا، ويتناولونها حتى يرموا بها البحر -يعني الكعبة- وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد".

                                                                                                                                                                                                                              وفي "غريب أبي عبيد" عن علي: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع أو أصمع حمش الساقين قاعد عليها، وهي تهدم" . ورفعه الحاكم، وفيه: "أصمع أفدع، بيده معول، وهو يهدمها حجرا حجرا" .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الحليمي: أن ذلك يكون زمن عيسى، وأن الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين قد سار إلى البيت يهدمه، فيبعث عيسى - عليه السلام - طائفة بين الثمان إلى التسع.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "منسك الغزالي" وحكاه ابن التين عن بعضهم: لا تغرب الشمس في يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف بهذا البيت واحد من الأوتاد، وإذا انقطع [ ص: 335 ] ذلك كان سبب رفعه من الأرض، فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ليس فيها أثر، وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد، ثم يرفع القرآن من المصاحف ثم من القلوب، ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية، ثم يخرج الدجال، ثم ينزل عيسى فيقتله، والساعة عند ذلك كالحامل المقرب ولادتها.

                                                                                                                                                                                                                              وفي كتاب "الفتن" لنعيم بن حماد: حدثنا بقية، عن صفوان، عن شريح، عن كعب: يخرج الحبشة خرجة يهبون فيها إلى البيت، ثم يفزع إليهم أهل الشام، فيجدونهم قد افترشوا الأرض في أودية بني علي، وهي قريبة من المدينة، حتى إن الحبشي يباع بالشملة. قال صفوان: وحدثني أبو اليمان، عن كعب قال; يخربون البيت، وليأخذن المقام، فيدركون على ذلك فيقتلهم الله .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: يخرجون بعد يأجوج (ومأجوج) . وعن عبد الله بن عمرو: تخرج الحبشة بعد نزول عيسى، فيبعث عيسى طليعة فيهزمون ، وفي رواية: تهدم مرتين، ويرفع الحجر في المرة الثالثة ، وفي رواية: ويرفع في الثالثة ، وفي رواية: ويستخرجون كنز فرعون يمنعه من الفسطاط، ويقتلون بوسيم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 336 ] وفي لفظ: فيأتون في ثلاثمائة ألف عليهم أسيس أو أسبس ، وقيل: خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى، وصححه القرطبي قال: ولا تعارض بين هذا وبين كون الحرم آمنا; لأن تخريبها إنما يكون عند خراب الدنيا، ولعله لا يبقى إلا شرار الخلق، فيكون آمنا مع بقاء الدين وأهله، فإذا ذهبوا ارتفع ذلك المعنى. وتحقيقه أنه لا يلزم من الأمن الدوام، بل إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما فقد صدق ذلك. وأما حديث: "ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة" فالحكم بالحرمة والأمن لم يرتفع، ولا يرتفع إلى يوم القيامة، وأما وقوع الخوف فيها وترك حرمتها فقد وجد من ذلك في أيام يزيد وغيره كثير .

                                                                                                                                                                                                                              وقال عياض: حرما آمنا [القصص: 57] أي: إلى قرب القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: يخص منه قصة ذي السويقتين. فإن قلت: ما السر في حراسة الكعبة من الفيل، ولم تحرس في الإسلام بما صنع بها الحجاج والقرامطة وذو السويقتين؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت: الجواب ما ذكره ابن الجوزي أن حبس الفيل كان من أعلام نبوته ودلائل رسالته، ولتتأكد الحجة عليهم، بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر، وكان حكم الجيش أيضا دلالة على وجود الناصر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 337 ] وقال ابن المنير: دخول هذا الحديث تحت ما ترجم له; ليبين أن الأمر المذكور مخصوص بالزمن الذي شاء الله فيه بالأمان، وأنه إذا شاء الله رفعه عند خروج ذي السويقتين، ثم إذا شاء أعاده بعد .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال: حديث أبي هريرة مبين لقوله تعالى: رب اجعل هذا البلد آمنا [البقرة: 126] أي: غير وقت تخريبه; لأن ذلك لا يكون إلا باستباحة حرمتها، وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج كما أخبر خليله إبراهيم فقال: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [الحج: 27] فهذا شرط الله -عز وجل- لا ينخرم ولا يحول، وإن كان في خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم، ولا بد من ارتفاعه، ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها كما كان، إجابة لدعوة خليله - عليه السلام -، يدل عليه حديث أبي سعيد في الكتاب.

                                                                                                                                                                                                                              وعلى ذلك لا تضاد، ولو صح ما ذكره قتادة: لا يحج البيت، لكان ذلك وقتا من الدهر، ويحتمل أن يكون ذلك وقت تخريبها بدليل حديث أبي سعيد .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: قيل: هذا ليس باختلاف، قد ينقطع ثم يعود، قال: وفي حديث آخر: "لا تزول مكة حتى تزول أخشباها" يعني: جبليها، أي: لا يزول الحج، ومعنى خرابه له في وقت يدعه الله إلى ذلك، ابتلاء منه شقوة له وليسود وجهه، وليعلم من يرتاب من ذلك، ولعله هو الذي يخسف بجيشه، وكأنه مفهوم البخاري فيما ترجمه بعد من [ ص: 338 ] باب: هدم الكعبة، وذكر عن عائشة رفعته "يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم" .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن علي مرفوعا: "قال الله -عز وجل-: إذا أردت أن أخرب الدنيا، بدأت ببيتي فخربته، ثم أخرب الدنيا على أثره" . و"يخرب": رباعي بضم الياء.

                                                                                                                                                                                                                              قال تعالى: يخربون بيوتهم بأيديهم [الحشر: 2] وقد منع الله صاحب الفيل في الوقت الذي شاء كما سلف. ويغزوه جيش كما ذكرناه، ويأذن في هذا الوقت الذي شاء ثم يعود، ولا فرق بين هذا وبين إدالة المشركين على المؤمنين، وقتل الأنبياء، وكل ابتلاء.

                                                                                                                                                                                                                              والحبش: جنس من السودان، وهم الأحباش والحبشان، وقد قالوا: الحبشة، وليس بصحيح في القياس; لأنه لا واحد له على مثال فاعل، فيكون مكسرا على فعلة، والأحبوش: جماعة الحبش، وقيل: هم الجماعة أيا كانوا; لأنهم إذا تجمعوا اسودوا.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: الحبش والحبشة: جنس من السودان .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن دريد: الحبشة على غير قياس، وقد قالوا: حبشان أيضا، ولا أدري كيف هو .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 339 ] وقال الرشاطي: هم من ولد كوش بن حام، وهم أكثر ملوك السودان، وجميع ممالك السودان يعطون الطاعة للحبش.

                                                                                                                                                                                                                              روى سفيان بن عيينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا خير في الحبش، إن جاعوا سرقوا، وإن شبعوا زنوا، وإن فيهم حسنتين: إطعام الطعام، والبأس يوم البأس" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن هشام في "تيجانه": أول من جرى لسان الحبشة على لسانه سحلب بن أداد بن ناهس بن سرعان بن كوش بن حام بن نوح، ثم تولدت من هذه اللسان ألسن استخرجت منه، وهذا هو الأصل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في حديث ابن عباس الذي سقناه من عند البخاري: "كأني به أسود أفحج ينقلها حجرا حجرا" يعني: الكعبة.

                                                                                                                                                                                                                              والأفحج بحاء ثم جيم: البعيد ما بين الرجلين، وذلك من نعوت الحبشان، ولذلك قال: ذو السويقتين; لأن في سوقهم حموشة أي: دقة، وصغرهما لدقتهما ونقصهما، وأتى بالتاء لأن الساق مؤنثة، وذكره أبو المعالي في "المنتهى" في الحاء والجيم كما أسلفناه، وقال: هو تداني صدور القدمين، وتباعد العقبين، وفتح الساقين.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وهو عيب في الخيل، وقال في الجيم والحاء: الفجح بالتحريك: تباعد ما بين الساقين، ومن الدواب: ما بين العرقوبين، وهو أقبح من الفحج، أي من الأول، وذكره في "المحكم" في الحاء والجيم [ ص: 340 ] أيضا، وقال في الثاني: هو تباعد ما بين القدمين ، وفي "المخصص": هو تباعد ما بين الفخذين، رجل أفحج وامرأة فحجاء. وعن أبي حاتم: فخذ فخجاء بخاء معجمة: وهي التي بانت من صاحبتها، والمصدر الفخج، وقد يكون في إحدى الفخذين .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الجامع": الجمع فحج.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن دريد: هو تباعد بين الرجلين .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المجمل" و"المغرب": هو تباعد ما بين أوساط الساقين في الإنسان والدابة ، واقتصر عليه ابن بطال .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث عائشة فهو مصدق للآية، ومعناه: أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور والكسوة، ويقدمون إليها كما يفعل المسلمون.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإسماعيلي: جمع أبو عبد الله فيه بين حديث عقيل وابن أبي حفصة في المتن، ولم يبين، وحديث ستر الكعبة في حديث ابن أبي حفصة وحده ثم ساقه، وحديث عقيل ليس فيه ذكر الستر ثم ساقه بدونه.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فإن كان أراد بيان اسم الكعبة التي تذكر في الآية فذاك، وإلا فليس ما في الباب من الترجمة في شيء.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 341 ] قلت: لعل البخاري أراد أصل الحديث على عادته، وإن كان ظاهره غير مطابق للترجمة.

                                                                                                                                                                                                                              وادعى بعضهم أنه أراد من حديث عقيل التصريح بسماع ابن شهاب من عروة، وليس كما ذكر، فإنه لم يأت به. نعم هو عند الإسماعيلي وأبي نعيم.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية