الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وسننها أن تكون على منبر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر ، ولأنه أبلغ في الإعلام ، ومن سننها إذا صعد المنبر ثم أقبل على الناس أن يسلم عليهم ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة واستقبل الناس بوجهه قال : السلام عليكم } ولأنه استدبر الناس في صعوده فإذا أقبل عليهم سلم .

                                      ومن سننها أن يجلس إذا سلم حتى يؤذن المؤذن ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا خرج يوم الجمعة جلس - يعني على المنبر - حتى يسكت المؤذن ثم قام فخطب } ويقف على الدرجة التي تلي المستراح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على هذه الدرجة ، ولأن ذلك أمكن له ، ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصا ; لما روى الحكم بن حزن رضي الله عنه قال { وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة فقام متوكئا على قوس أو عصا ، فحمد الله وأثنى عليه ، كلمات خفيفات ، طيبات مباركات } ولأن ذلك أمكن له فإن لم يكن معه شيء سكن يديه ، ومن سننها أن يقبل على الناس ولا يلتفت يمينا ولا شمالا ; لما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه } ويستحب أن يرفع صوته لحديث جابر { علا صوته واشتد غضبه } ولأنه أبلغ في الإعلام ; قال الشافعي - رحمه الله : ويكون كلامه مترسلا مبينا معربا من غير بغي ولا تمطيط ; لأن ذلك أحسن وأبلغ ، ويستحب أن يقصر الخطبة ; لما روي عن عثمان " أنه خطب وأوجز ، فقيل له : لو كنت تنفست ، فقال سمعت رسول الله [ ص: 397 ] صلى الله عليه وسلم يقول : { قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخطب على المنبر } صحيح مشهور رواه البخاري ومسلم من روايات جماعات من الصحابة .

                                      وأما الحديث الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة قال : السلام عليكم } فرواه البيهقي من رواية ابن عمر وجابر وإسنادهما ليس بقوي .

                                      وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا خرج يوم الجمعة جلس على المنبر } إلى آخره ، فرواه أبو داود بإسناد ضعيف ; ويغني عنه ما سبق في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد الصحابي قال { كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما } " فهذا الحديث صحيح صريح في الجلوس حينئذ ، وبه استدل البخاري والبيهقي في المسألة .

                                      وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقف على الدرجة التي تلي المستراح } فهذا الحديث موجود في أكثر النسخ وليس موجودا في بعض النسخ المقابلة بأصل المصنف ، وهو حديث صحيح .

                                      وأما حديث الحكم بن حزن فحديث حسن رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة ، وأما حديث سمرة بن جندب .

                                      وأما حديث عثمان فرواه مسلم في صحيحه . [ ص: 398 ] ( وأما لغات الفصل وألفاظه ) فالمنبر مشتق من النبر ، وهو الارتفاع ، وقوله " تلي المستراح " هو أعلى المنبر الذي يقعد عليه الخطيب ليستريح قبل الخطبة حال الأذان ، والحكم بن حزن بفتح الحاء المهملة وإسكان الزاي ، وجندب بضم الدال وفتحها ، قوله " يكون كلامه مترسلا " قال الأزهري أي يتمهل فيه ويبينه تبيينا يفهمه سامعوه . قال وهو من قولهم : اذهب على رسلك أي على هينتك غير مستعجل ولا تتعب نفسك ، قوله " معربا " أي فصيحا ، والبغي بإسكان الغين المعجمة ، قال الأزهري : هو أن يكون رفعه صوته يحكي كلام الجبابرة والمتكبرين والمتفيهقين ، قال : ( والبغي في كلام العرب الكبر ، والبغي الضلال والبغي الفساد ، قوله التمطيط الإفراط في مد الحروف ، يقال : مط كلامه إذا مده ، فإذا أفرط فيه قيل مططه ، قوله : لو كنت تنفست ; يعني مددتها وطولتها ، قوله صلى الله عليه وسلم " مئنة " بفتح الميم بعدها همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة أو دلالة على فقهه .

                                      ( وأما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) ) أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها ، ولأنه أبلغ في الإعلام ، ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم .

                                      قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب ، أي على يمين الإمام إذا قام في المحراب مستقبل القبلة ، وهكذا العادة .

                                      قال أصحابنا : ويستحب أن يقف على يمين المنبر ، قال أصحابنا .

                                      فإن لم يكن منبر استحب أن يقف على موضع عال ، وإلا فإلى خشبة ونحوها للحديث المشهور في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخطب إلى جذع قبل اتخاذ المنبر } فقالوا : ويكره المنبر الكبير جدا الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسعا .



                                      ( الثانية ) قال أصحابنا : يسن للإمام السلام على الناس مرتين ( إحداهما ) : عند دخوله المسجد يسلم على من هناك وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه .

                                      ( الثانية ) : إذا وصل أعلى المنبر وأقبل على الناس بوجهه يسلم عليهم ; لما ذكره المصنف .

                                      قال أصحابنا : وإذا سلم لزم السامعين الرد عليه وهو فرض كفاية كالسلام في باقي المواضع ، وهذا الذي ذكرناه من استحباب السلام [ ص: 399 ] الثاني مذهبنا ومذهب الأكثرين وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأحمد .

                                      وقال مالك وأبو حنيفة : يكره .



                                      ( الثالثة ) يسن له إذا صعد المنبر وأقبل على الناس وسلم أن يجلس ويؤذن المؤذن فإذا فرغ من الأذان قام فشرع في الخطبة ويكون المؤذن واحدا ، فإن كان أكثر ففيه كلام وتفصيل سبق في باب الأذان .



                                      ( الرابعة ) : يستحب أن يقف على الدرجة التي تلي المستراح كما ذكره المصنف ، قال الشيخ أبو حامد : فإن قيل قد روي أن أبا بكر نزل عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم درجة ، وعمر درجة أخرى ، وعثمان أخرى ، ووقف علي رضي الله عنه في موقف النبي صلى الله عليه وسلم .

                                      قلنا : كل منهم له قصد صحيح ، وليس بعضهم حجة على بعض ، واختار الشافعي وغيره موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لعموم الأمر بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم .



                                      ( الخامسة ) : يسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا أو نحوها ; لما سبق .

                                      قال القاضي حسين والبغوي : يستحب أن يأخذه في يده اليسرى ولم يذكر الجمهور اليد التي يأخذه فيها .

                                      وقال أصحابنا : ويستحب أن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر .

                                      قالوا : فإن لم يجد سيفا أو عصا ونحوه سكن يديه بأن يضع اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يحركهما ولا يعبث بواحدة منهما ، والمقصود الخشوع والمنع من العبث .



                                      ( السادسة ) : يسن أن يقبل الخطيب على القوم في جميع خطبتيه ولا يلتفت في شيء منهما ، قال صاحب الحاوي وغيره : ولا يفعل ما يفعله بعض الخطباء في هذه الأزمان من الالتفات يمينا وشمالا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيرها فإنه باطل لا أصل له ، واتفق العلماء على كراهة هذا الالتفات وهو معدود من البدع المنكرة ، وقد قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : يستحب أن يقصد قصد وجهه ، ولا يلتفت في شيء من خطبته عندنا ، وقال أبو حنيفة : يلتفت يمينا وشمالا في بعض الخطبة كما في الأذان ، وهذا غريب لا أصل له .

                                      قال أصحابنا : ويستحب للقوم الإقبال بوجوههم على [ ص: 400 ] الخطيب وجاءت فيه أحاديث كثيرة ولأنه الذي يقتضيه الأدب ، وهو أبلغ في الوعظ ، وهو مجمع عليه .

                                      قال إمام الحرمين : سبب استقبالهم له واستقباله إياهم واستدباره القبلة أن يخاطبهم ، فلو استدبرهم كان قبيحا خارجا عن عرف الخطاب ، ولو وقف في آخر المسجد واستقبل القبلة فإن استدبروه كان قبيحا ; وإن استقبلوه استدبروا القبلة ; فاستدبار واحد واستقبال الجمع أولى من عكسه .

                                      قال أصحابنا : ولو خالف السنة وخطب مستقبل القبلة مستدبر الناس صحت خطبته مع الكراهة ; كذا قطع به جماهير الأصحاب في جميع الطرق ; وفيه وجه شاذ أنه لا تصح خطبته .

                                      حكاه الدارمي والشاشي وغيرهما ، وهو مخالف لما قطع به ; وأن له بعض الاتجاه ، وطرد الدارمي الوجه فيما إذا استدبروه أو خالفوا هم أو هو الهيئة المشروعة بغير ذلك .



                                      ( السابعة ) : يستحب رفع صوته زيادة على الواجب ; لما ذكره المصنف .



                                      ( الثامنة ) : يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير ; ولا تكون ألفاظا مبتذلة ملفقة ، فإنها لا تقع في النفوس موقعا كاملا ، ولا تكون وحشية ; لأنه لا يحصل مقصودها بل يختار ألفاظا جزلة مفهمة .

                                      قال المتولي : ويكره الكلمات المشتركة والبعيدة عن الأفهام .

                                      وما يكره عقول الحاضرين ، واحتج بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ " رواه البخاري في أواخر كتاب العلم من صحيحه .



                                      ( التاسعة ) : يستحب تقصير الخطبة للحديث المذكور ، وحتى لا يملوها ، قال أصحابنا : ويكون قصرها معتدلا ، ولا يبالغ بحيث يمحقها .



                                      ( العاشرة ) : قال المتولي : يستحب للخطيب أن لا يحضر للجمعة إلا بعد دخول الوقت بحيث يشرع فيها أول وصوله المنبر ; لأن هذا هو المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وصل المنبر صعده ولا يصلي تحية المسجد ، وتسقط هنا التحية بسبب الاشتغال بالخطبة كما تسقط في حق الحاج إذا دخل المسجد الحرام بسبب الطواف ، وقال جماعة من أصحابنا : [ ص: 401 ] تستحب له تحية المسجد ركعتان عند المنبر ، ممن ذكر هذا البندنيجي والجرجاني في التحرير وصاحبا العدة والبيان ، والمذهب أنه لا يصليها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه صلاها ، وحكمته ما ذكرته .

                                      ولم يذكر الشافعي وجماهير الأصحاب التحية ، وظاهر كلامهم أنه لا يصليها ، والله أعلم .



                                      ( الحادية عشرة ) : يستحب للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين ولا يشتغلوا بغيره حتى قال أصحابنا : يكره لهم شرب الماء للتلذذ ، ولا بأس بشربه للعطش للقوم والخطيب ، هذا مذهبنا قال ابن المنذر : رخص في الشرب طاوس ومجاهد والشافعي ، ونهى عنه مالك والأوزاعي وأحمد .

                                      وقال الأوزاعي : تبطل الجمعة إذا شرب ، والإمام يخطب ، واختار ابن المنذر الجواز قال : ولا أعلم حجة لمن منعه .

                                      قال العبدري : قول الأوزاعي مخالف للإجماع .



                                      ( الثانية عشرة ) : يستحب للخطيب أن يختم خطبته بقوله : أستغفر الله لي ولكم ، ذكره البغوي .

                                      ويستحب له أن يأخذ في النزول من المنبر عقب فراغه ، ويأخذ المؤذن في الإقامة ، ويبلغ المحراب مع فراغ الإقامة .



                                      ( الثالثة عشرة ) : يكره في الخطبة أشياء ( منها ) ما يفعله بعض جهلة الخطباء من الدق بالسيف على درج المنبر في صعوده ، وهذا باطل لا أصل له وبدعة قبيحة ( ومنها ) : الدعاء إذا انتهى صعوده قبل جلوسه ، وربما توهم بعض جهلتهم أنها ساعة إجابة الدعاء ، وذلك خطأ ، إنما ساعة الإجابة بعد جلوسه كما سنوضحه في موضعه من الباب الثاني إن شاء الله - تعالى - ( ومنها ) : الالتفات في الخطبة الثانية عند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق بيان أنه باطل مكروه ( ومنها ) : المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم وكذبهم في كثير من ذلك ، كقولهم السلطان العالم العادل ونحوه ( ومنها ) : مبالغتهم في الإسراع في الخطبة الثانية وخفض الصوت بها .



                                      ( الرابعة عشرة ) : قال الشافعي في المختصر : وإذا حصر الإمام لقن ، قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : ونص في مواضع أخر أنه لا يلقن .

                                      قال القاضي أبو الطيب : قال أصحابنا : ليست على قولين بل على حالين ، فقوله " يلقنه " أراد إذا استعظمه التلقين بحيث سكت ولم ينطق بشيء ; وقوله " لا يلقنه " [ ص: 402 ] أراد مادام يردد الكلام ويرجو أن ينفتح عليه ; فيترك حتى ينفتح عليه ، فإن لم ينفتح لقن ; واتفق الأصحاب على أن مراد الشافعي هذا التفصيل وأنها ليست على قولين .




                                      الخدمات العلمية