الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 413 ] من تعين لتحملها لا يسعه أن يمتنع إذا طولب ، فإذا تحملها وطلب لأدائها يفترض عليه إلا أن يقوم الحق بغيره ، وهو مخير في الحدود بين الشهادة والستر ، والستر أفضل ، ويقول في السرقة : أخذ المال ، ولا يقول : سرق; ولا يقبل على الزنا إلا شهادة أربعة من الرجال ، وباقي الحدود والقصاص شهادة رجلين ، وما سواهما من الحقوق تقبل فيها شهادة رجلين ، أو رجل وامرأتين ( ف ) ، وتقبل شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة وعيوب النساء ، وتقبل شهادتهن في استهلال الصبي في حق الصلاة دون الإرث ( سم ) ، ولا بد من العدالة ولفظة الشهادة والحرية والإسلام ، ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته ( سم ف ) ، إلا في الحدود والقصاص ، فإن طعن فيه الخصم سأل عنه . وقالا : يسأل عنهم في جميع الحقوق سرا وعلانية ، وعليه الفتوى ، ولو اكتفى بالسر جاز . ولا بد أن يقول المزكي : هو عدل ( ف ) جائز الشهادة ، ولا تقبل تزكية المدعى عليه ( سم ) ، وتكفي تزكية الواحد ( ف ) .

[ ص: 413 ]

التالي السابق


[ ص: 413 ] كتاب الشهادات

أصل الشهادة الحضور ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " الغنيمة لمن شهد الوقعة " أي حضرها ، ويقال : فلان شهد الحرب وقضية كذا إذا حضرها ، وقال :

إذا علموا أني شهدت وغابوا .

أي حضرت ولم يحضروا ، والشهيد : الذي حضره الوفاة في الغزو حتى لو مضى عليه وقت صلاة وهو حي لا يسمى شهيدا ؛ لأن الوفاة لم تحضره في الغزو .

وفي الشرع : الإخبار عن أمر حضره الشهود وشاهدوه ، إما معاينة كالأفعال نحو القتل والزنا ، أو سماعا كالعقود والإقرارات ، فلا يجوز له أن يشهد إلا بما حضره وعلمه عيانا أو سماعا ، ولهذا لا يجوز له أداء الشهادة حتى يذكر الحادثة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " إن علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع " وهي حجة مظهرة للحق مشروعة ، قال تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وقال : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وقال - عليه الصلاة والسلام - : " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " البينة على المدعي " [ ص: 414 ] والبينة : الشهادة بالإجماع ؛ ولأن فيها إحياء حقوق الناس ، وصون العقود عن التجاحد ، وحفظ الأموال على أربابها ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " أكرموا شهودكم فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق " .

قال : ( من تعين لتحملها لا يسعه أن يمتنع إذا طولب ) لما فيه من تضييع الحقوق ، وإن لم يتعين فهو مخير ، ولا بأس بالتحرز عن التحمل .

( فإذا تحملها وطلب لأدائها يفترض عليه ) لقوله تعالى : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) وقال تعالى : ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ولأنه إضاعة لحقوق الناس فيحرم الامتناع .

( إلا أن يقوم الحق بغيره ) بأن يكون في الصك سواه من يقوم الحق به فيجوز له الامتناع ؛ لأن الحق لا يضيع بامتناعه ؛ ولأنها فرض كفاية ، ولا بد من طلب المدعي ؛ لأنها حقه .

قال : ( وهو مخير في الحدود بين الشهادة والستر ) لأن إقامة الحدود حسبة ، والستر على المسلم حسبة .

( والستر أفضل ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة " وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقن ماعزا الرجوع وسأله عن حاله سترا عليه ؛ لئلا يرجم ويشتهر ، وكفى به قدوة وكذلك نقل عن الخلفاء الراشدين .

قال : ( ويقول في السرقة : أخذ المال ) إحياء لحق المسروق منه .

( ولا يقول : سرق ) إقامة لحسبة الستر .

قال : ( ولا يقبل على الزنا إلا شهادة أربعة من الرجال ) لقوله تعالى : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ) [ ص: 415 ] وقوله : ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) وقال - عليه الصلاة والسلام - للذي قذف زوجته : ( ائتني بأربعة يشهدون وإلا فضرب في ظهرك " .

قال : ( وباقي الحدود والقصاص شهادة رجلين ) قال تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وقال تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وقال - عليه الصلاة والسلام - : " شاهداك أو يمينه " ولا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص .

قال الزهري : مضت السنة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص .

قال : ( وما سواهما من الحقوق تقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ) قال تعالى : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) وأنه مذكور في سياق المداينات بالأجل فتقبل فيها . وعن عمر : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة النساء في النكاح " ولأنها من أهل الشهادة بالآية ، فتقبل شهادتها لوجود المشاهدة والحفظ والأداء كالرجل ، وزيادة النسيان تجبر بزيادة العدد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( فتذكر إحداهما الأخرى ) بقي شبهة البدلية ، فلهذا قلنا لا تقبل في الحدود والقصاص وغيرها من الأحكام يثبت مع الشبهة .

قال : ( وتقبل شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة وعيوب النساء ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال " ولأنه لا بد من [ ص: 416 ] ثبوت هذه الأحكام ولا يمكن الرجال الاطلاع عليها وإنما يطلع عليها النساء على الانفراد فوجب قبول شهادتهن على الانفراد تحصيلا للمصلحة ، وتقبل فيها شهادة امرأة واحدة ، لما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قبل شهادة امرأة واحدة في الولادة ؛ ولأن ما يقبل فيه قول النساء على الانفراد لا يعتبر فيه العدد كرواية الأخبار ، والثنتان أحوط ، والثلاث أحب إلى الله ، وبالأربع يخرج عن الخلاف . وأحكام الشهادة في الولادة تعرف في الطلاق إن شاء الله تعالى . وأما البكارة فإن العنين يؤجل سنة ويفرق بينهما بعدها إذا قلنا إنها بكر ، وهل يشترط في ذلك لفظة الشهادة ؟ لا يشترط عند مشايخ العراق ، ويشترط عند مشايخ خراسان ؛ لأنها توجب حقا على الغير فكانت شهادة .

قال : ( وتقبل شهادتهن في استهلال الصبي في حق الصلاة دون الإرث ) أما الصلاة فبالإجماع لأنها من أمور الدين ، وأما الإرث فمذهبه . وقالا : تقبل أيضا ؛ لأن الاستهلال صوت يكون عقيب الولادة ، وتلك حالة لا يحضرها الرجال ، فدعت الضرورة إلى قبول شهادتهن لما مر .

ولأبي حنيفة أن ذلك مما يطلع عليه الرجال ؛ لأنه يحل لهم سماع صوته ، فلا ضرورة في حق ثبوت النسب والإرث والمهر ، وكذا لا يقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات ؛ لأن الحرمة متى ثبتت ترتب عليها زوال ملك النكاح ، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة الرجال ؛ ولأنه مما يمكن اطلاع الرجال عليه فلا ضرورة .

قال : ( ولا بد من العدالة ولفظة الشهادة والحرية والإسلام ) أما العدالة فلقوله تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وقال تعالى : ( ممن ترضون من الشهداء ) والفاسق ليس بمرضي ؛ ولأن الحاكم يحكم بقول الشاهد وينفذه في حق الغير ، فيجب أن يكون قوله يغلب على ظن الحاكم الصدق ، ولا يكون ذلك إلا بالعدالة ، إلا أن القاضي إذا قضى بشهادة الفاسق ينفذ عندنا . وأما لفظة الشهادة فلقوله تعالى : ( واستشهدوا ) فإنه صريح في طلب الشهادة فيجب عليه [ ص: 417 ] الإتيان بلفظها ؛ ولأن الشهادة من ألفاظ اليمين على ما يأتيك إن شاء الله تعالى في الأيمان ، فيكون الامتناع عنها على تقدير الكذب أكثر ؛ ولأن القياس ينفي قول الإنسان على الغير لما فيه من إلزامه ، إلا أنا قبلناه في موضع ورد الشرع به ، وأنه ورد مقرونا بالشهادة . وأما الحرية فلأن الشهادة من باب الولاية ، ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف على غيره ؟ وأما الإسلام فلقوله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) .

قال . ( ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته إلا في الحدود والقصاص ، فإن طعن فيه الخصم سأل عنه . وقالا : يسأل عنهم في جميع الحقوق سرا وعلانية ، وعليه الفتوى ) وجه قول أبي حنيفة قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف " وفي كتاب عمر : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا حقا أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة ؛ ولأن العدالة هي الأصل لأنه ولد غير فاسق ، والفسق أمر طارئ مظنون ، فلا يجوز ترك الأصل بالظن ، ولا يلزم الحدود والقصاص لأنه كما أن الأصل في الشاهد العدالة كذلك الأصل في المشهود عليه العدالة ، والشاهد وصفه بالزنا والقتل فتقابل الأصلان فرجحنا بالعدالة الباطنة ؛ ولأن الحدود مبناها على الإسقاط فيسأل عنها احتيالا للدرء . ولهما أن الحاكم يجب أن يحتاط في حكمه صيانة له عن النقض وذلك بسؤال السر والعلانية .

( ولو اكتفى بالسر جاز ) .

قال أبو بكر الرازي : لا خلاف بينهم في الحقيقة فإن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة فيه ظاهرة ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - عدل أهله وقال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب " واكتفى بتعديل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي زمنهما فشا الكذب فاحتاجا [ ص: 418 ] إلى السؤال ، ولو كانا في زمانه ما سألا ، ولو كان في زمنهما لسأل ، فلهذا قلنا : الفتوى على قولهما ، ولقد تصفحت كثيرا من كتب أبي بكر الرازي فما رأيته رجح على قول أبي حنيفة قول غيره إلا في هذه المسألة ، وإنما رجح قولهما لما رأى من فساد أهل الزمان ، وقلة مبالاتهم بالأمور الدينية ، وكان يقول : ينبغي للحاكم أن ينقب عن أحوال الشهود في كل ستة أشهر ؛ لأنه قد يطرأ على الشاهد في هذه المدة ما يخرجه عن أهلية الشهادة ، والله أعلم .

قال : ( ولا بد أن يقول المزكي هو عدل جائز الشهادة ) لأن العبد عدل غير جائز الشهادة; وقيل يكتفي بقوله هو عدل ؛ لأن الأصل هو الحرية تبعا للدار ، وإن لم يكن عدلا عنده قال الله أعلم بحاله ، وقد كانوا يكتفون بتزكية العلانية ، ثم انضم إليها تزكية السر في زماننا لاختلاف الزمان ، ثم قيل يكتفي بتزكية السر تحرزا عن الفتنة . قال محمد : تزكية العلانية بلاء وفتنة ، ثم لا بد في تزكية العلانية أن يجمع بين المزكي والشاهد لتنتفي شبهة تعديل غيره . وتزكية السر أن يبعث رقعة مختومة إلى المزكي فيها اسم الشاهد ونسبه وحليته ومصلاه ، ويردها المزكي كذلك سرا ، وينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشهود أوثق الناس وأورعهم ديانة وأعظمهم أمانة وأكثرهم بالناس خبرة وأعلمهم بالتمييز ، غير معروفين بين الناس لئلا يقصدوا بسوء أو يخدعوا ، وينبغي للمزكي أن يسأل عن أحوال الشهود ويتعرفها من جيرانهم وأهل سوقهم ، فإن ظهرت عدالتهم عنده كتب ذلك في آخر الرقعة : هو عدل عندي جائز الشهادة ، وإلا كتب إنه غير عدل وختم الرقعة وردها ، فيقول القاضي للمدعي زد في شهودك ولا يقول جرحوا ، ويقبل في تزكية السر قول الولد والوالد وكل ذي رحم والعبد والأعمى والمحدود في القذف ؛ لأنها أخبار ، خلافا لمحمد فإنها شهادة عنده ، بخلاف تزكية العلانية فإنها شهادة بالإجماع . والشهود الكفار يعدلهم المسلمون ، فإن لم يعرفهم المسلمون سأل المسلمين عن عدول المشركين ، ثم يسأل أولئك عن الشهود .

قال : ( ولا تقبل تزكية المدعى عليه ) ومعناه أن يقول هم عدول إلا أنهم أخطئوا أو نسوا ، أما لو قال صدقوا أو هم عدول صدقه فقد اعترف بالحق فيقضي بإقراره لا بالبينة ؛ لأن البينة عند [ ص: 419 ] الجحود; وقيل يجوز تعديله . ووجه الظاهر أن المدعي والشهود يزعمونه كاذبا في إنكاره مبطلا في جحوده فلا يصلح مزكيا .

قال : ( وتكفي تزكية الواحد ) وعن محمد اثنين وهو أولى ، وكذلك المترجم ورسول القاضي إلى المزكين . لمحمد أن حكم القاضي مبني على العدالة وذلك بالتزكية ، فيشترط الإتيان كالشهادة ، ويشترط عنده ذكورة المزكي في الحدود والأربعة في شهود الزنا لما بينا . ولهما أنها ليست في معنى الشهادة حتى لا يشترط فيها لفظة الشهادة ومجلس الحكم ، واشتراط العدد في الشهادة تعبدي فلا يتعداها .




الخدمات العلمية