الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 427 ] الباب الثامن عشر في صلاة الكسوف .

                                                                                                                الأجود كسفت الشمس ، وخسف القمر ، وقيل بالعكس ، وقيل : هما في ذلك سواء ، وقيل : الكسوف تغير لونهما ، والخسوف مغيبهما في السواد ، وقيل : الخسوف في الكل ، والكسوف في البعض ، ويقال : خسف بالفتح وبالضم على ما لم يسم فاعله ، وانكسفت الشمس ، وأنكره بعضهم بالألف ، وأصل الكسوف التغير ، ومنه كاسف البال أي متغير الحال ، والخسف : الذهاب بالكلية ، ومنه قوله تعالى : ( فخسفنا به وبداره الأرض ) . والخسف : النقص ، ومنه رضي بخطة خسف ، ولما كان القمر يذهب جملة ضوءه كان أولى بالخسوف من الكسوف ، وفي الجواهر صلاة الكسوف سنة على الرجال والنساء والعبيد ومن عقل الصلاة من الصبيان ، وتصليها المرأة في بيتها ، وقال ( ح ) : واجبة . وفي الجلاب روى ابن القاسم : وقتها وقت العيدين قياسا عليهما وعلى الاستسقاء بجامع أن هذا وقت ليس بشيء من الفرائض ، فجعل السنن المستقلة تمييزا لها عن النوافل التابعة . وروي إلى غروب الشمس ، وقاله ( ش ) ; لعموم قوله - عليه السلام - : " فإذا [ ص: 428 ] رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " ، وقياسا على الجنازة ، وروي إلى العصر ; لقوله - عليه السلام - : " لا صلاة بعد العصر " . قال سند : فإن طلعت مكسوفة لم يصل حتى تحل النافلة خلافا ( ش ) ، للنهي عن الصلاة حينئذ ، ولمالك في كونهم يقفون ويذكرون قولان ، فلو كسفت عند الغروب وغربت الشمس ، كذلك لم تصل إجماعا ، والفرق ذهاب رجاء نقصها لذهاب النهار ، وحكمة الصلاة أن يعود إليها ضوءها ومنفعتها ، وفي الجواهر تفعل في المسجد دون المصلى وقاله ( ش ) ، وخير أصبغ بينه وبين صحته وبين القضاء وقاله ( ح ) . لنا ما رواه ابن وهب : قالت عائشة - رضي الله عنها - : " خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إلى المسجد فقام وكبر ، وصف الناس خلفه - " الحديث . والفرق بينها ، وبين العيدين والاستسقاء : أن وقتها ضيق لا يجتمع له أهل القرى والمصر ; فلا يضيق المسجد عليهم ، ولأن الخروج إلى المصلى قد يفوتها بتجلي الشمس . وفي الكتاب لا يجهر بقراءتها ، وقاله ( ش ) و ( ح ) خلافا لابن حنبل . لنا ما في الموطأ قال ابن عباس : خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى والناس معه ; فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ، ثم ركع ركوعا طويلا ، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ، ثم سجد ، ثم انصرف وقد تجلت الشمس ، فقال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله " . فقوله نحوا من سورة البقرة يدل على السر ، وإلا فلا حاجة [ ص: 429 ] إلى التقدير ، وفي الجلاب : يقرأ في الركوع الأول بسورة نحوا من البقرة ، وفي الثاني بنحو آل عمران ، وفي الثالث بنحو النساء ، وفي الرابع بنحو المائدة ، وفي الجواهر : هي ركعتان ، في كل ركعة ركوعان وقيامان ، يقرأ في كل ركوع الفاتحة ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : ركعتان طويلتان كصلاة الصبح ، وهو مروي في أبي داود . وجه الجمع بينه وبين حديث الموطأ ; أنه يحتمل أنه فعل ذلك بعد انقضاء الصلاة ، وقال ابن مسلمة : لا تكون الفاتحة في الركوع الثاني ، ولا في الرابع ; لأن الركعتين ركعة واحدة . لنا القياس على كل قراءة بعد ركوع ، قال : فإن تجلت الشمس في أضعاف الصلاة ، قال سحنون : يتمون مثل سائر النوافل لزوال السبب ، وقال أصبغ : كما ابتدأوا نظرا للشروع .

                                                                                                                فروع ستة :

                                                                                                                الأول في الكتاب : إذا فرغ منها والشمس على حالها لا تعاد ، ولكن الذكر والتنفل ; لأن الكسوف سبب له سبب واحد وقد فعل فيسقط حكمه ، وفي أبي داود : أنه - عليه السلام - جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلت الشمس ، ولا خطبة لها عندنا خلافا ل ( ش ) . لنا حديث ابن عباس المتقدم ولم يذكر الخطبة .

                                                                                                                [ ص: 430 ] الثاني في الكتاب : لا تفوت الركعة بفوات ركوعها الأول : خلافا ( ش ) ، ومن فاتته ركعة قضاها بركوعين وسجدتين ; احتج ( ش ) بأن الإمام إنما يحمل القراءة دون الركوع . جوابه : أن الركوع الثاني هو الركن لتوسطه بين القراءة والسجود ، وتوسط الأول بين القراءة فله حكمها ، أو الركوعان كالركوع الواحد والمدرك لبعض الركوع مدرك إجماعا ، قال سند : فإن سها عن الركوع الأول وركع الثاني بنية الثاني سجد قبل السلام ، وإن ركعه بنية الأول وترك الثاني ; فإن ذكر قبل عقد الثانية رجع إلى الأولى ، وإلا بنى وجعل الثانية أولى وسجد بعد السلام .

                                                                                                                الثالث : قال ابن القاسم في الكتاب : أحب إلي أن يطول السجود وقاله ( ش ) ، قياسا على الركوع ، قال سند : قال مالك : لا يطول ; لأن الحديث السابق لم يذكر فيه التطويل بل قال فسجد ; ولأنه لم يكرر فلا يطول ، وإذا قلنا بالطول فلم يفعل ، سجد قبل السلام لترك سنة .

                                                                                                                الرابع في الكتاب : صلاة خسوف القمر كسائر النوافل ويدعون ولا يجتمعون ، وقاله ( ح ) ، وقال ( ش ) : يستحب لها الجمع والخطبة مثل صلاة الكسوف . لنا عمل المدينة ، وقد خسف القمر مرات على عهده صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقل عنه الجمع ، وحكى اللخمي عن ابن الماجشون : أنها كصلاة الخسوف وتصلى أفذاذا ، والمشهور أنها تصلى في البيوت ، وروي عن مالك : أنها تصلى في المسجد أفذاذا ، قال سند : ووقتها الليل كله فإن طلع مكسوفا بدأ بالمغرب ، وظاهر قول [ ص: 431 ] مالك عدم افتقارها إلى نية تخصها ، بخلاف الكسوف فإن انكشفت عن الفجر لم يصلوا خلافا ( ش ) ; لقوله - عليه السلام - : " إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر " ، ولأن المقصود من الصلاة رد ضوئه ليلا ; لتحصل مصلحته وقد فات ذلك ، ولو كسف فلم يصلوا حتى غاب بليل لم يصلوا خلافا ( ش ) ; لأن منفعته لا تعود .

                                                                                                                الخامس في الجواهر : لا يصلى للزلازل وغيرها من الآيات ، وحكى اللخمي عن أشهب الصلاة واختاره .

                                                                                                                السادس في الجواهر : إذا اجتمع عيد وكسوف قدم الكسوف ، وفيه سؤالان : الأول : أن اجتماعهما محال عادة ، فإن كسوف الشمس إنما يكسف بالقمر إذا حال بيننا وبينها في درجتها يوم تسع وعشرين ، وعيد الفطر يكون بينهما نحو ثلاثة عشرة درجة منزلة ، والأضحى يكون بينهما نحو مائة وثلاثين درجة وعشر منازل ، نعم يمكن عقلا أن يذهب ضوء الشمس بغير سبب أو بسبب غير القمر ، كحياة إنسان بعد قطع رأسه أو إخلاء جوفه ، الكلام على مثل هذا منكر بين الفقهاء مع أن الشافعي وجماعة من العلماء تحدثوا فيه . السؤال الثاني : أنه ذكر في باب التطوع أن العيدين آكد من الكسوف ، وهو مناقض لتقديمه ، وجوابه : أن الكسوف يخشى ذهاب سببه بخلاف العيدين ، كما نقدم جواب الأذان على قراءة القرآن خشية الفوات ، فإن اجتمع كسوف وجمعة ; قدمت الجمعة عند خوف فواتها ، وإن أمن قدم الكسوف ، وتقدم الجنازة على الكسوف والجمعة ، إلا أن يضيق وقتها . قال أبو الطاهر : ويقدم العيدان على الاستسقاء ; لأن وقتهما يفوت والمطلوب فيهما الزينة وفيه الخمول ، والجمع بينهما متناقض .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية