الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكان أبو سفيان قد ساحل وترك بدرا يسارا ، ثم أسرع ؛ فنجا ، فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش وهم بالجحفة : إن الله قد نجى عيركم وأموالكم فارجعوا . فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم بها ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، [ ص: 17 ] ونسقي الخمر ، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا . فقال الأخنس بن شريق الثقفي - وكان حليفا لبني زهرة - بالجحفة : يا بني زهرة ، قد نجى الله أموالكم وصاحبكم فارجعوا ، فرجعوا . فلم يشهدها زهري ولا عدوي ، وشهدها سائر بطون قريش .

ولما كانت قريش بالجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال : إني رأيت فيما يرى النائم رجلا أقبل على فرس ومعه بعير له ، فقال : قتل عتبة وشيبة وأبو جهل ، وغيرهم ممن قتل يومئذ - ورأيته ضرب لبة بعيره ثم أرسله في العسكر ، فما بقي خباء إلا أصابه من دمه .

فقال أبو جهل : وهذا أيضا نبي من بني المطلب ، سيعلم غدا من المقتول .

وكان بين طالب بن أبي طالب ، وهو في القوم ، وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : والله قد عرفنا أن هواكم مع محمد . فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع ، وقيل : إنما كان خرج كرها ، فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة ، وهو الذي يقول :


يا رب إما يغوون طالب في مقنب من هذه المقانب     فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب



ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي ، وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منه ما لبد لهم الأرض ، ولم يمنعهم المسير ، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزله ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا رسول الله ، أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة . قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس لك بمنزل ، انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء سواه من القوم فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا ونملأه ماء ، فنشرب ماء ولا يشربون [ ص: 18 ] ثم نقاتلهم . ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك .

فلما نزل جاءه سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله ، نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويحاربون معك . فأثنى عليه خيرا .

ثم بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش ، وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها ، فلما رآها قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ! اللهم فنصرك الذي وعدتني ! اللهم أحنهم الغداة . ورأى عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال : إن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا .

وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه إيماء ، بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر ، أهداها لهم ، وعرض عليهم المدد بالرجال والسلاح ، فقالت قريش : إن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف ، وإن كنا نقاتل الله كما زعم محمد فما لأحد بالله طاقة . فلما نزلت قريش أقبل جماعة ، منهم حكيم بن حزام ، حتى وردوا حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : اتركوهم ، فما شرب منه رجل إلا قتل يومئذ ، إلا حكيم نجا على فرس له يقال له : الوجيه ، وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه ، وكان يقول إذا اجتهد في يمينه : لا والذي نجاني يوم بدر .

ولما اطمأنت قريش بعثوا عمرو بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين ، فجال بفرسه حولهم ثم عاد فقال : هم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولقد رأيت الولايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، ليس لهم منعة إلا سيوفهم ، والله لا [ ص: 19 ] يقبل رجل منهم إلا يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا أعدادهم ، فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم .

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في القوم ، فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، هل لك أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي . قال : قد فعلت ، علي دمه وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فلا أخشى أن يفسد أمر الناس غيره . فقام عتبة في الناس فقال : إنكم ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموهم لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ؛ قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته . قال حكيم بن حزام : فانطلقت إلى أبي جهل فوجدته قد نشل درعا وهو يهيئها ، فأعلمته ما قال عتبة ، فقال : انتفخ - والله - سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم ، وقد خافكم عليه .

ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له : هذا حليفك يريد أن يرجع إلى مكة بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فانشد خفرتك ومقتل أخيك . فقام عامر وصرخ : واعمراه واعمراه ! فحميت الحرب واستوسق الناس على الشر .

فلما بلغ عتبة قول أبي جهل : انتفخ سحره ، قال : سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو ! ثم التمس بيضة يدخلها رأسه فما وجد من عظم هامته ، فاعتجر ببرد له .

وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، وكان سيئ الخلق ، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه ، أو لأموتن دونه . فخرج إليه حمزة فضربه ، فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض ، ثم حبا إلى الحوض فاقتحم فيه ليبر يمينه ، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .

ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، ودعوا إلى المبارزة ، فخرج [ ص: 20 ] إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحة ، كلهم من الأنصار فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار . فقالوا : أكفاء كرام ، وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : قم يا حمزة ، قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا علي ، فقاموا ودنا بعضهم من بعض ، فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب - وكان أمير القوم - عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد ، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه ، وكر حمزة وعلي على عتبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ، فلما أتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألست شهيدا يا رسول الله ؟ قال : بلى . قال : لو رآني أبو طالب لعلم أننا أحق منه بقوله :


    ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ثم مات ، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض ، وأبو جهل يقول :

اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لم نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان هو المستفتح على نفسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية