الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  58 2- حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا أبو عوانة عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة: قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار، والسكينة حتى يأتيكم أمير فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو، ثم قال: أما بعد، فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام فشرط علي: والنصح لكل مسلم، فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث يدل على بعض الترجمة المستلزم للبعض الآخر إذ النصح لأخيه المسلم لكونه مسلما إنما هو فرع الإيمان بالله ورسوله.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم أربعة الأول أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي البصري المعروف بعارم بمهملتين، وهو لقب رديء لأن العارم الشرير المفسد يقال: عرم يعرم عرامة بالفتح وصبي عارم أي شرير بين العرام بالضم، وكان رحمه الله بعيدا منه لكن لزمه هذا اللقب فاشتهر به، سمع ابن المبارك، وخلائق، وروى عنه البخاري وغيره من الأعلام، قال أبو حاتم: إذا حدثك عارم فاختم عليه، وقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: اختلط أبو النعمان في آخر عمره، وزال عقله فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وكتب عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة ومائتين، وروى عنه مسلم بواسطة والأربعة كذلك، مات سنة أربع وعشرين ومائتين بالبصرة، الثاني أبو عوانة بالفتح واسمه الوضاح اليشكري، وقد تقدم الثالث زياد بن علاقة بكسر العين المهملة وبالقاف ابن مالك الثعلبي بالثاء المثلثة الكوفي أبو مالك سمع جريرا، وعمه قطبة بن مالك، وغيرهما من الصحابة، وغيرهم، وعنه جماعات من التابعين منهم الأعمش، وكان يخضب بالسواد، قال يحيى بن معين: ثقة مات سنة خمس وعشرين ومائة، الرابع جرير رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب) السدوسي بفتح السين الأولى نسبة إلى سدوس اسم قبيلة وقال الرشاطي: السدوسي في بكر بن وائل، وفي تميم فالذي في بكر بن وائل سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل منهم من الصحابة قطبة بن قتادة، والذي في تميم سدوس بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة، واعلم أن كل سدوسي في العرب بفتح السين إلا سدوس بن أصمع بن أبي بن عبيد بن ربيعة بن نصر بن سعد بن نبهان بن طي، وقال ابن دريد: السدوس الطيلسان، الثعلبي بالثاء المثلثة في غطفان ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وفي أسد بن خزيمة ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين كوفي وبصري وواسطي ومنها أنه من رباعيات البخاري.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هاهنا كما ترى وأخرجه في الشروط عن أبي نعيم عن الثوري، وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن شيبة، وزهير بن حرب، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة، عن الثوري به، وأخرجه النسائي في البيعة، وفي السير عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقبري، عن سفيان بن عيينة، وفي الشروط عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عنه نحوه.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 325 ] (بيان اللغات) قوله: "والوقار" بفتح الواو الرزانة والسكينة السكون، وقال الجوهري: السكينة الوداع والوقار، قوله: "استعفوا" من الاستعفاء وهو طلب العفو، والمعنى اطلبوا له العفو من الله كذا هو في أكثر الروايات بالعين المهملة، والواو في آخره، وفي رواية ابن عساكر: استغفروا بغين معجمة وراء من الاستغفار، وهي رواية الأصيلي في (المستخرج).

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله: "سمعت" جملة من الفعل والفاعل وجرير بن عبد الله مفعوله، وفيه تقدير لا يصح الكلام إلا به لأن جريرا ذات، والمسموع هو الصوت، والحروف، وهو سمعت قول جرير بن عبد الله أو نحوه، فلما حذف هذا وقع ما بعده تفسيرا له وهو قوله يقول، ويوم نصب على الظرفية أضيف إلى الجملة أعني قوله مات المغيرة بن شعبة، قوله: "قام" جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب، قوله: "فحمد الله" عطف عليه أي عقيب قيامه حمد الله تعالى، قوله: "عليكم" اسم من أسماء الأفعال معناه الزموا اتقاء الله، قوله: "وحده" نصب على الحالية، وإن كان معرفة لأنه مؤول إما بأنه في معنى "واحدا"، وإما بأنه مصدر وحد يحد وحدا نحو وعد يعد وعدا، قوله: "لا شريك له" جملة تؤكد معنى وحده، قوله: "والوقار" بالجر عطف على باتقاء الله أي: وعليكم بالوقار والسكون، قوله: "حتى يأتيكم أمير" كلمة حتى هذه للغاية ويأتيكم منصوب بأن المقدرة بعد حتى فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يكون بعد إتيان الأمير الاتقاء والوقار، والسكون لأن حكم ما بعد حتى التي للغاية خلاف ما قبل قلت، قال الكرماني: لا نسلم أن حكمه خلاف ما قبله سلمنا لكنه غاية للأمر بالاتقاء لا للأمور الثلاثة أو غاية للوقار والسكون لا للاتقاء أو غاية للثلاثة، وبعد الغاية يعني عند إتيان الأمير يلزم ذلك بالطريق الأولى، وهذا مبني على قاعدة أصولية وهي أن شرط اعتبار مفهوم المخالفة فقدان مفهوم الموافقة وإذا اجتمعا يقدم المفهوم الموافق على المخالف، قلت: مفهوم الموافقة ما كان حكم المسكوت عنه موافقا لحكم المنطوق به كمفهوم تحريم الضرب للوالدين من تنصيص تحريم التأفيف لهما، ومفهوم المخالفة ما كان حكم المسكوت عنه مخالفا لحكم المنطوق كفهم نفي الزكاة عن العلوفة بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على وجوب الزكاة في الغنم السائمة، قوله: "فإنما يأتيكم" أي الأمير، وكلمة "إنما" من أداة الحصر، قوله: "الآن" نصب على الظرف، قوله: "فإنه" الفاء فيه للتعليل، وقوله: "كان يحب العفو" جملة في محل الرفع على أنها خبر إن، قوله: "أما بعد" كلمة "أما" فيها معنى الشرط فلذلك كانت الفاء لازمة لها، وبعد من الظروف الزمانية، وكثيرا ما يحذف منه المضاف إليه، ويبنى على الضم ويسمى غاية وهاهنا قد حذف فلذلك بني على الضم والأصل: أما بعد الحمد لله والثناء عليه أو التقدير: أما بعد كلامي هذا فإني أتيت، قوله: "قلت" جملة من الفعل والفاعل بدل من قوله: "أتيت" فلذلك ترك العاطف حيث لم يقل، وقلت: أو هي استئناف وقوله: "فشرط علي" بتشديد الياء في علي على الصحيح من الروايات، والمفعول محذوف تقديره: فشرط علي الإسلام، قوله: "والنصح" بالجر لأنه عطف على الإسلام أي وعلى النصح لكل مسلم ويجوز فيه النصب عطفا على مفعول شرط مقدر تقديره: وشرط النصح لكل مسلم، قوله: "علي" هذا إشارة إلى المذكور من الإسلام والنصح كليهما، قوله: "ورب هذا المسجد" الواو فيه للقسم وأشار به إلى مسجد الكوفة، وقوله: "إني لناصح" جواب القسم وأكده بأن واللام والجملة الاسمية، قوله: "ونزل" أي عن المنبر أو معناه قعد لأنه في مقابلة قام فافهم.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قوله: "يوم مات المغيرة" كانت وفاته سنة خمسين من الهجرة وكان واليا على الكوفة في خلافة معاوية، واستناب عند موته ابنه عرفة، وقيل: استناب جريرا المذكور، ولهذا خطب الخطبة المذكورة، قوله: "فحمد الله" أي أثنى عليه بالجميل، وأثنى عليه أي ذكره بالخير ويحتمل أن يراد بالحمد وصفه متحليا بالكمالات وبالثناء وصفه متخليا عن النقائص، فالأول إشارة إلى الصفات الوجودية، والثاني إلى الصفات العدمية أي التنزيهات، قوله: "حتى يأتيكم أمير" أي بدل هذا الأمير الذي مات، وهو المغيرة، فإن قلت: لم نصحهم بالحلم والسكون؟ قلت: لأن الغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الفتنة والاضطراب بين الناس والهرج والمرج، وأما ذكره الاتقاء فلأنه ملاك الأمر، ورأس كل خير، وأشار به إلى ما يتعلق بمصالح الدين وبالوقار والسكينة إلى ما يتعلق بمصالح الدنيا، قوله: "فإنما يأتيكم الآن" إما أن يراد به حقيقته فيكون ذلك الأمير جريرا بنفسه لما روي أن المغيرة استخلف جريرا على الكوفة عند موته على ما ذكرنا أو يريد به المدة القريبة من [ ص: 326 ] الآن، فيكون ذلك الأمير زيادا إذ ولاه معاوية بعد وفاة المغيرة الكوفة قوله: "استعفوا" أي اسألوا الله تعالى لأميركم العفو فإنه كان يحب العفو عن ذنوب الناس إذ يعامل بالشخص كما هو يعامل بالناس، وفي المثل السائر: كما تدين تدان، وقيل: كما تكيل تكال، وقال ابن بطال: جعل الوسيلة إلى عفو الله بالدعاء بأغلب خلال الخير عليه، وما كان يحبه في حياته، وكذلك يجزى كل أحد يوم القيامة بأحسن أخلاقه وأعماله، قوله: "ورب هذا المسجد" يشعر بأن خطبته كانت في المسجد الحرام، ويجوز أن تكون إشارة إلى جهة المسجد، ويدل عليه رواية الطبراني بلفظ: "ورب الكعبة"، ذكر ذلك للتنبيه على شرف المقسم به ليكون أدعى للقبول، قوله: "إني لناصح" فيه إشارة إلى أنه وفى بما بايع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلامه صادق خالص عن الأغراض الفاسدة، فإن قلت: النصح للكافر يصح بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار، فلم قيده بقوله: "لكل مسلم"، وبقوله: "لكم"؟ قلت: هذا التقييد من حيث الأغلب فقط فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية