الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تمهد ما ذكرنا فكل غريم للمفلس ثبت دينه من ثمن مبيع لم يخل حال العين المبيعة إذا لم يقبض البائع ثمنها من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون في يد البائع لم يسلمها إلى المشتري حتى حجر عليه بالفلس ؛ فللبائع أن يفسخ البيع فيها ويأخذ بثمنها ، وله أن يمضي البيع ويسلمها ويضرب مع الغرماء بثمنها ، وهذا قول متفق عليه ليس يعرف خلاف فيه ، وعند أبي حنيفة : يقدم بائعه بثمنها .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكون المشتري قد قبضها وخرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو استهلاك فالبائع لها أسوة الغرماء يضرب بثمنها معهم كأحدهم .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون المشتري قد قبضها وهي قائمة في يده وباقية على ملكه فقد اختلف الناس هل يستحق البائع الرجوع بها أم لا ؟ فذهب الشافعي إلى أن البائع أحق بها وله أن يسترجعها بثمنها ، وبه قال من الصحابة عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبو هريرة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، ومن الفقهاء مالك ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : البائع أسوة الغرماء لا حق له في الرجوع بعين ماله ، وبه قال الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي استدلالا برواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما أسندوه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أيما [ ص: 267 ] امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء ولأن البائع حبس المبيع على ثمنه كما أن للمرتهن حبس الرهن على حقه ، فلما كان المرتهن لو رد الرهن على راهنه لم يكن له الرجوع إليه عند تعذر حقه وجب إذا سلم البائع المبيع إلى مشتريه أن لا يكون له الرجوع إليه عند تعذر ثمنه ، وتحديد ذلك قياسا أنه محبوس لاستيفاء الحق منه فوجب أن يكون رفع اليد عنه مسقطا لحق الاستيفاء منه كالرهن ، ولأن البائع قد وجب له بعقد البيع حقان :

                                                                                                                                            أحدهما : ثبوت الثمن في الذمة .

                                                                                                                                            والثاني : حبس المبيع على قبض ثمنه ، ثم ثبت أنه لو أسقط حقه من الثمن الذي في الذمة بالإبراء لم يعد إليه لحدوث الفلس وجب إذا أسقط حقه من حبس المبيع بالتسليم أن لا يعود إليه لحدوث الفلس .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد نوعي حق يستحق بالعقد فوجب أن لا يعود إليه بالفلس بعد سقوطه بالعفو كالثمن ، ولأن الحقوق المستقرة في الذمم لا تنتقل إلى الأعيان بتعذر الاستيفاء كالموسر إذا مطل ، ولأنه تسليم يمنع حق الإمساك فوجب أن لا يعود إليه بالإفلاس كالهبة إذا قبضت ، ولأنه لما كان المشتري قد ملك المبيع كسائر أمواله وكان الثمن مستقرا في ذمته كديون غرمائه وجب أن يكون حكم البائع كحكم جميع الغرماء ، وحكم المبيع كحكم سائر الأموال ، والدلالة على ما ذكرنا حديث خلدة أو ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال : أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال : هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بالمتاع إذا وجده بعينه " فإن قالوا : هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به ، لأن راويه مشكوك فيه هل هو خلدة أو ابن خلدة : فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه شك في اسمه لا في عينه وذلك غير مانع من الأخذ بروايته .

                                                                                                                                            والثاني : أنه شك بين ثقتين ، لأن خلدة ثقة مقبول الحديث وابن خلدة ثقة مقبول الحديث ، والشك بين راويين لا يمنع من الأخذ بالحديث إذا كانا ثقتين على أن الشافعي قد رواه من طريق آخر عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، [ ص: 268 ] عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به .

                                                                                                                                            فإن قالوا : هذا حديث تفرد به أبو هريرة ولم يساعده عليه غيره وذلك وهن في الحديث يمنع من الأخذ به : قلنا : أبو هريرة من جملة الصحابة وليس تفرده بالحديث مانعا من الأخذ به كما تفرد بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، ثم قد أخذ المسلمون كلهم به وعملوا ، وكما تفرد أبو ثعلبة الخشني بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وتفردت عائشة رحمها الله بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ، على أن غير أبي هريرة قد وافقه على الرواية وهو ما روى فليح بن سليمان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا عدم الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به وإن قالوا : فقوله : " صاحب المتاع أحق بمتاعه " لا يجوز أن يتوجه إلى البائع ، لأن المتاع ليس له وإنما هو للمشتري ، وإذا كان كذلك وجب حمله على المفلس إذا كان مودعا أو غاصبا ليصح كون المتاع ملكا لمسترجعه ، قلنا : هذا التأويل لا يصح لأنه جعله أحق بمتاعه بوجوب شرط وهو حدوث الفلس ، وصاحب الوديعة والغصب مستحق استرجاع ماله بشرط وغير شرط وفلس وغير فلس ، ويكون معنى قوله : " فصاحب المتاع " الذي كان صاحب المتاع كما قال الله تعالى حاكيا عن يوسف : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم [ يوسف : 62 ] يعني التي كانت بضاعتهم ، لأنها خرجت عن ملكهم ، وقال حاكيا عن إخوته : هذه بضاعتنا ردت إلينا [ يوسف : 65 ] يعني : التي كانت بضاعتنا ، على أننا قد روينا ما ذكرناه نصا وهو ما رواه الشافعي عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق ، فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء ثم يدل على ذلك من طريق المعنى ، هو أن عقد البيع قد ملك به البائع الثمن في الذمة ، كما ملك به المشتري العين المبيعة ، ثم ثبت أن المشتري يستحق الفسخ بوجود العيب في العين المبيعة فوجب أن يستحق البائع الفسخ بحدوث العيب في العين المبيعة فوجب أن يستحق البائع الفسخ [ ص: 269 ] كالعين ، ولأن ما في الذمة قد يتنوع نوعين ثمنا ومثمنا ، فلما كان العجز عما كان في الذمة من الثمن في عقد السلم يقتضي الفسخ وجب أن يكون العجز عما في الذمة من الثمن في عقد البيع يقتضي الفسخ ، وتحديد ذلك قياسا أنه أحد نوعي ما ثبت في الذمة عن عقد معاوضة فجاز أن يستحق الفسخ بتعذره كالثمن في السلم ، ولأن المشتري قد ملك ما ابتاعه قبل القبض ( كما ملكه بعد القبض ) فلما استحق البائع بفلس المشتري استرجاع ما باعه قبل القبض استحقه بعد القبض ، وتحديد ذلك أنه مشتر أفلس بثمن ما ابتاعه فجاز أن يستحق به البائع استرجاع ما باعه - إذا كان على ماله - قياسا على ما قبل القبض ، ولأن الثمن في البيع مستوفى من ذمة المشتري كما أن السكنى في الإجارة مستوفاة من الدار المستأجرة ، فلما كان خراب الدار يقتضي فسخ الإجارة واسترجاع الأجرة وجب أن يكون خراب الذمة يقتضي فسخ البيع واسترجاع العين المبيعة ، وتحديد ذلك أنه حق تعين استيفاؤه من محل فوجب أن يكون خراب المحل عند استيفاء الحق منه موجبا للفسخ كالإجارة ، ولأن عقد البيع قد نقل ملك البائع عن العين المبيعة إلى الثمن في الذمة ؛ كما أن عقد الكتابة قد نقل ملك المشتري عن رقبة العبد إلى ما حصل له في ذمته ، فلما كان عجز المكاتب عما في ذمته موجبا لاسترجاع العين وجب أن يكون عجز المشتري عما في ذمته موجبا لاسترجاع العين ، وتحريره أنه نوع معاوضة ينتقل به حق المعاوض من عين إلى ذمة فجاز أن يعود إلى العين عند خراب الذمة كالكتابة ، وأما الجواب عن الخبر فهو مرسل لا يلزم الاحتجاج به ، وقد تفرد قتادة بنقله وغلط فيه ، والمشهور ما روينا من الطرق المختلفة ، ولو صح لكان محمولا على أحد وجهين :

                                                                                                                                            إما أن يكون حين مات موسرا .

                                                                                                                                            وإما أن يرضى البائع أن يكون أسوة الغرماء ، على أن أبا حامد كان يقول : إن الغرماء ضربان : منهم من يرجع بعين ماله ، ومنهم من لا عين له فيضرب بدينه في ملكه فلم يكن حمله على أحد الفريقين بأولى من حمله على الفريق الآخر ، وأما الجواب عن قياسهم على الرهن فهو أن الرهن لما كان عقدا بطل بفسخه فلم يعد إلى الرهن إلا باستيثاقه وحق الحبس هاهنا كان لاستيفاء الثمن ، وهذا المعنى باق بعد رفع يديه فجاز أن يعود لبقاء الحق إلى آخذه ، فأما الجواب عن قياسهم على الإبراء من الثمن فالإبراء لما أسقط الحق لم يكن له الرجوع فيه ، ورفع يده عن المبيع لما لم يسقط الحق جاز له الرجوع فيه ، وأما الجواب عن استدلالهم بالموسر المماطل فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن مطل الموسر لم تخرب به الذمة فلم يستحق به الفسخ ، والفلس قد خربت به الذمة فاستحق به الفسخ .

                                                                                                                                            [ ص: 270 ] والثاني : أن الموسر إذا مطل أمكن استيفاء الحق منه جبرا بالحاكم ، والمفلس لا يمكن استيفاؤه منه ، وأما الجواب عن قياسهم على الهبة فهو أنه لما لم يلحق الواهب ضرر بفلس من وهب له لم يستحق الرجوع عليه بفلسه ، ولما لحق البائع ضرر بفلس المشتري استحق الرجوع عليه بفلسه ، وأما الجواب عن استدلالهم بعين البائع فهو أن عين البائع لما لم يتعلق حقه بعين لم ينصرف دينه إليها وليس كذلك البائع في عين ماله والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية