الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      حافظوا على الصلوات أي: داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال، كما ينبئ عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة، ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو والنهي عن ترك الفضل؛ لأنها تهيئ النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة؛ إيذانا بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها، والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك؛ فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن، وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين والصلاة الوسطى أي: المتوسطة بينها، أو الفضلى منها، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس [ ص: 156 ] بلا زيادة دون الثاني، وفي تعيينها أقوال: أحدها: أنها الظهر؛ لأنها تفعل في وسط النهار، الثاني: أنها العصر؛ لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وهو المروي عن علي، والحسن، وابن عباس، وابن مسعود، وخلق كثير، وعليه الشافعية، والثالث: أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب؛ لأنها وسط في الطول والقصر، والرابع: أنها صلاة العشاء؛ لأنها بين صلاتين لا يقصران، والخامس: أنها الفجر؛ لأنها بين صلاتي الليل والنهار، ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها، فهي منفردة بين مجتمعين، وهو المروي عن معاذ، وجابر، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، واختاره الشافعي _ رضي الله تعالى عنه _ نفسه، وقيل: المراد بها صلاة الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: عيد الفطر، وقيل: عيد الأضحى، وقيل: صلاة الليل، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الجماعة، وقيل: صلاة الخوف، وقيل وقيل ...

                                                                                                                                                                                                                                      والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر؛ لما أخرج مسلم من حديث علي _ كرم الله تعالى وجهه _ أنه _ صلى الله عليه وسلم _ قال يوم الأحزاب: " شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، ملأ الله تعالى بيوتهم نارا " وخصت بالذكر؛ لأنها تقع في وقت اشتغال الناس، لا سيما العرب، قال بعض المحققين: والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر، ونسب ذلك إلى الإمام أبي حنيفة _ رضي الله تعالى عنه _ وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان: مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها؛ لأنها أقوال صحابة عارضها صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا، وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال، والسالم من المقال قسمان: مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ من المطول؛ اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها، فقوله من حديث مسلم: " شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر " فيه احتمالان؛ أحدهما: أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا، بل مدرج في الحديث؛ أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه، كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث، ويؤيده ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي _ كرم الله تعالى وجهه _ بلفظ: " حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس " يعني: العصر، الثاني: على تقدير أنه ليس بمدرج، يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف، لا بيانا ولا بدلا، والتقدير: شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط، بل شغل عن الظهر والعصر معا، كما ورد من طريق أخرى، فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر، وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث، والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي تفسيرا أنها العصر؛ لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا؛ وشبك بين أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر، وإذا تعارض الحديثان ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول، ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف حديث " شغلونا " إلخ، فوجب الرجوع إليه، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود بسند جيد، عن زيد بن ثابت، قال: كان رسول الله _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها، فنزلت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وأخرج أحمد من وجه آخر، عن زيد أيضا: أن رسول الله _ [ ص: 157 ] صلى الله تعالى عليه وسلم _ كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله تعالى: حافظوا على الصلوات إلخ فقال رسول الله _ صلى الله تعالى عليه وسلم _: " لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم " ويؤكد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم وغيره من طرق، عن أبي يونس مولى عائشة، قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقالت: سمعتها من رسول الله _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا، عن عمرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف، عن عبد الله بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا، فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة، وأخرج ابن أبي داود، عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة، قال: كتبت مصحفا لحفصة، فقالت: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، فلقيت أبي بن كعب، فقال: هو كما قالت، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا، وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر، هذا وعن الربيع بن خيثم، وأبي بكر الوراق: أنها إحدى الصلوات الخمس، ولم يعينها الله تعالى، وأخفاها في جملة الصلوات المكتوبة؛ ليحافظوا على جميعها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، واسمه الأعظم في جميع الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، وقرأ عبد الله، وعلي: (الصلاة الوسطى)، وروي عن عائشة: والصلاة بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ نافع: الوصطى بالصاد وقوموا لله أي: في الصلاة قانتين أي: مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض، وهو المروي عن ابن عباس _ رضي الله تعالى عنهما _ أو ذاكرين له تعالى في القيام بناء على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقيل: مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه، من غير إخلال بشيء مما ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير، عن مجاهد، قال: من القنوت طول الركوع، وغض البصر، والخشوع، وأن لا يلتفت، وأن لا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء، ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في صحيحه بـ: ساكتين؛ لما أخرج هو ومسلم، وأبو داود، وجماعة، عن زيد بن أرقم، قال: كنا نتكلم على عهد رسول الله _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما أخرجه ابن جرير، عن ابن مسعود _ رضي الله تعالى عنهما _ قال: أتيت النبي _ صلى الله تعالى عليه وسلم _ وهو يصلي فسلمت عليه، فلم يرد علي، فلما قضى الصلاة قال: " إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين، لا نتكلم في الصلاة "، وقال ابن المسيب: المراد به القنوت في الصبح، وهو رواية عن ابن عباس _ رضي الله تعالى عنهما _ والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية