الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة ، منها قوله :( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [الأنبياء : 107] ومنها قوله :( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) [آل عمران : 159] وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد كما في هذه الآية ؛ وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ، بين ما يجب أن يعاملوا به فقال :( فإما تثقفنهم في الحرب ) قال الليث : ثقفنا فلانا في موضع كذا ، أي أخذناه وظفرنا به ، والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب ، يقال : شرد يشرد شرودا ، وشرده تشريدا ، فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلا يفرق بهم من خلفهم ، قال عطاء : تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم ، وقيل : نكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد( لعلهم يذكرون ) أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد ، وقرأ ابن مسعود "فشرذ" بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب "شذر" ، وقرأ أبو حيوة "من خلفهم" ، والمعنى : فشرد تشريدا متلبسا بهم من خلفهم ؛ لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني ، فالكاسرون يعدون خلف المكسورين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشردهم في ذلك الوقت .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله :( وإما تخافن من قوم خيانة ) يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثا بأمارات ظاهرة( فانبذ إليهم ) فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر ، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، فيكون ذلك خيانة منك( إن الله لا يحب الخائنين ) في العهود ، وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه ، قال أهل العلم : آثار نقض العهد إذا ظهرت ، فإما أن تظهر ظهورا محتملا أو ظهورا مقطوعا به ، فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية ، وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب ، أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فههنا لا حاجة [ ص: 147 ] إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة . والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية