الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء

      أخرج فيما قد مضى من ظهر آدم ذريته كالذر     وأخذ العهد عليهم أنه
      لا رب معبود بحق غيره

      .

      ( أخرج ) أي الله - تبارك وتعالى - ( فيما ) أي الزمن الذي ( قد مضى ) وذلك بعد خلقه آدم - عليه الصلاة والسلام - ( من ظهر آدم ) أبي البشر - عليه السلام - ( ذريته ) كل من يوجد منهم إلى يوم القيامة ( كالذر ) أي كهيئته ، ( وأخذ ) - عز وجل - ( العهد عليهم ) ، وتفسير العهد ( أنه ) الضمير للشأن أو الحال هو ربهم ( لا رب معبود ) مستحق للعبادة ، ولذا قيد ( بحق غيره ) ، وإلا فكم قد اتخذ أعداؤه من أرباب ، وعبدوها بالباطل بدون حق ، بل بالظلم العظيم ، قال الله تبارك وتعالى : [ ص: 85 ] ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) ، ( الأعراف : 172 - 173 ) .

      وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به ؟ قال فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا ، فأبيت إلا أن تشرك بي . أخرجاه في الصحيحين . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - تعالى - أخذ الميثاق من ظهر آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا ، قال تعالى : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية ) . . . إلى قوله ( المبطلون ) . رواه أحمد والنسائي والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

      وقد روي من طرق كثيرة موقوفا . وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) الآية ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : سمعت رسول الله سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم [ ص: 86 ] - عليه السلام - ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون . فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خلق الله العبد للجنة ، استعمله بأعمال أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار ، استعمله بأعمال أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخل به النار . رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في صحيحه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن .

      وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم ، مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك . فرأى رجلا منهم ، أعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك ، يقال له داود . قال : رب ، وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة . فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت ، فقال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أو لم تعطها لابنك داود ؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته . ونسي آدم ، فنسيت ذريته . رواه الترمذي ، وقال : [ ص: 87 ] هذا حديث حسن صحيح .

      وقد روي من غير وجه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرح مسلم ، ولم يخرجاه ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره نحو ما تقدم إلى أن قال : ثم عرضهم على آدم ، فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك ، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى ، وأنواع الأسقام ، فقال آدم : يا رب ، لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تشكر نعمتي . وقال آدم : يا رب ، من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك . ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم .

      وعن هشام بن حكيم - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه ، ثم قال : هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار . فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار . رواه ابن جرير ، وابن مردويه ، من طرق عنه .

      وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله الخلق وقضى القضية ، أخذ أهل اليمين بيمينه ، وأهل الشمال بشماله ، فقال : يا أصحاب اليمين ، فقالوا : لبيك وسعديك . قال ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، قال : يا أصحاب [ ص: 88 ] الشمال ، قالوا : لبيك وسعديك . قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، ثم خلط بينهم . فقال له : يا رب ، لم خلطت بينهم ، قال : لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم ردهم في صلب آدم . رواه ابن مردويه ، وفيه جعفر بن الزبير ، وهو ضعيف .

      وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر ، وهو في أذى من الماء . رواه ابن جرير . وله عنه - رضي الله عنه - قال : إن الله - تعالى - مسح صلب آدم ، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وتكفل لهم بالرزق . ثم أعادهم في صلبه ، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به ، نفعه الميثاق الأول ، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به ، لم ينفعه الميثاق الأول . ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر ، مات على الميثاق الأول على الفطرة .

      وله عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، قال : أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس ، فقال لهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، قالت الملائكة : شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . وصحح ابن كثير وقفه .

      وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - في قوله - [ ص: 89 ] تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) الآيات ، قال : فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة ، فجعلهم في صورهم ، ثم استنطقهم ، فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم ، ألست بربكم ؟ قالوا بلى . الآية ، قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم ، أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا ، اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، وإني سأرسل إليكم رسلا ليذكروكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي . قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك ، فأقروا له يومئذ بالطاعة ، ورفع أباهم آدم ، فنظر إليهم ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : يا رب ، لو سويت بين عبادك ، قال : إني أحببت أن أشكر . ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج ، عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول - تعالى - : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) ، ( الأحزاب : 7 ) الآية ، وهو الذي يقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله ) ، ( الروم : 30 ) الآية ، ومن ذلك قال : ( هذا نذير من النذر الأولى ) ، ( النجم : 56 ) ، ومن ذلك قال : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) ، ( الأعراف : 102 ) الآية ، رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه . وفي البغوي قال مقاتل وغيره من أهل التفسير : إن الله - تعالى - مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء ، كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج منه ذرية سوداء ، كهيئة الذر ، فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك ، ثم قال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي ، وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعا في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، قال الله - تعالى - فيمن نقض العهد الأول : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) ، وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السعادة [ ص: 90 ] أقروا طوعا وقالوا بلى . وأهل الشقاوة قالوا : تقية وكرها . وذلك معنى قوله - تعالى - : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) .

      واختلفوا في موضع الميثاق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة . وروي عنه أيضا أنه بدهناء من أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم - عليه السلام - عليه ، وقال الكلبي : بين مكة والطائف ، وقال السدي : أخرج آدم - عليه السلام - من الجنة ، فلم يهبطه من السماء ، ثم مسح ظهره فأخرج ذريته .

      وروي أن الله - تعالى - أخرجهم جميعا وصورهم ، وجعل لهم عقولا يعلمون بها ، وألسنا ينطقون بها ، ثم كلمهم قبلا - يعني : عيانا - وقال : ألست بربكم ؟ وقال الزجاج : وجائز أن يكون الله - تعالى - جعل لأمثال الذر فهما تعقل به ، كما قال - تعالى - : ( قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ) ، ( النمل : 18 ) .

      قال البغوي : فإن قيل ما معنى قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، وإنما أخرجهم من ظهر آدم ؟ قيل : إن الله - تعالى - أخرج ذرية آدم ، بعضهم عن ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه ، وأخرجوا من ظهره . قوله - تعالى - : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) أي أشهد بعضهم على بعض ، قوله : ( شهدنا أن تقولوا ) قرأ أبو عمرو ( أن يقولوا ) ، ( أو يقولوا ) ، بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما . واختلفوا في قوله ( شهدنا ) ، قال السدي : هو خبر من الله - عز وجل - عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . وقال بعضهم : هو خبر عن قول بني آدم ، أشهد الله بعضهم على بعض ، فقالوا : بلى شهدنا . وقال الكلبي : ذلك من قول الملائكة ، وفيه حذف تقديره : لما قالت الذرية بلى ، قال الله - عز وجل - للملائكة : اشهدوا ، قالوا : شهدنا .

      قوله : ( أن يقولوا ) يعني : وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا أي لئلا يقولوا ، أو كراهية أن يقولوا . ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام أخاطبكم ، ألست بربكم لئلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أي عن هذا الميثاق والإقرار ، فإن قيل كيف يلزم الحجة واحدا لا يذكر الميثاق ؟ قيل : قد أوضح الله - تعالى - الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره ، كان معاندا ناقضا للعهد ، ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر صاحب المعجزة .

      [ ص: 91 ] قوله : ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) ، يقول : إنما أخذ الميثاق عليكم ; لئلا تقولوا أيها المشركون : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، ونقضوا العهد ، وكنا ذرية من بعدهم ، أي كنا أتباعا لهم ، فاقتدينا بهم ، فتجعلوا هذا عذرا لأنفسكم ، وتقولوا : ( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين ؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله - تعالى - بأخذ الميثاق على التوحيد ( وكذلك نفصل الآيات ) أي نبين الآيات ; ليتدبرها العباد ( ولعلهم يرجعون ) من الكفر إلى التوحيد . ا هـ . البغوي .

      وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد ، إنما هو فطرهم على التوحيد ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة . وفي رواية : على هذه الملة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء . أخرجاه . وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم . وعن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتد عليه ، ثم قال : ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟ فقال رجل : يا رسول الله ، أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : إن خياركم أبناء المشركين . ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها [ ص: 92 ] وينصرانها . قال الحسن : ولقد قال الله - تعالى - في كتابه : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، قالوا : ولهذا قال تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) ، ولم يقل من آدم ( من ظهورهم ) ، ولم يقل من ظهره ( ذريتهم ) أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ، كقوله تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) ، ( الأنعام : 165 ) ، وقال : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) وقال تعالى : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) ، ( الأنعام : 133 ) ، ثم قال تعالى : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) أي أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالا ، قال : والشهادة تكون بالقول ، كقوله تعالى : ( قالوا شهدنا على أنفسنا ) الآية ، وتارة تكون حالا ، كقوله تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، ( التوبة : 17 ) أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك ، وكذا قوله تعالى : ( وإنه على ذلك لشهيد ) ، ( العاديات : 7 ) ، كما أن السؤال تارة يكون بالمقال ، وتارة يكون بالحال ، كقوله تعالى : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) ، ( إبراهيم : 34 ) ، قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كاف في وجوده ، فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ، ولهذا قال تعالى : ( أن تقولوا ) أي لئلا تقولوا يوم القيامة ( إنا كنا عن هذا غافلين ) أي عن التوحيد ، ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا ) الآية ا هـ .

      قلت : ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة ، فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة ، الأول : الميثاق الذي أخذه الله - تعالى - عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم - عليه السلام - وأشهدهم على أنفسهم ( ألست بربكم قالوا بلى ) الآيات [ ص: 93 ] ، وهو الذي قاله جمهور المفسرين - رحمهم الله - في هذه الآيات ، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما .

      الميثاق الثاني : ميثاق الفطرة ، وهو أنه - تبارك وتعالى - فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول ، كما قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، ( الروم : 30 ) الآية ، وهو الثابت في حديث أبي هريرة ، وعياض بن حمار ، والأسود بن سريع رضي الله عنهم ، وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما .

      الميثاق الثالث : هو ما جاءت به الرسل ، وأنزلت به الكتب تجديدا للميثاق الأول ، وتذكيرا به ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) ، ( النساء : 165 ) ، فمن أدرك هذا الميثاق ، وهو باق على فطرته التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول ، فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف ; لأنه جاء موافقا لما في فطرته ، وما جبله الله عليه ، فيزداد بذلك يقينه ، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد . ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه ، وهوده أبواه أو نصراه أو مجساه ، فهذا إن تداركه الله - تعالى - برحمته ، فرجع إلى فطرته ، وصدق بما جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، نفعه الميثاق الأول والثاني ، وإن كذب بهذا الميثاق ، كان مكذبا بالأول ، فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه ، حيث قال : ( بلى ) جوابا لقوله تعالى : ( ألست بربكم ) ، وقامت عليه حجة الله ، وغلبت عليه الشقوة ، وحق عليه العذاب ، ومن يهن الله فما له من مكرم ، إن الله يفعل ما يشاء .

      ومن لم يدرك هذا الميثاق ، بأن مات صغيرا قبل التكليف ، مات على الميثاق الأول على الفطرة ، فإن كان من أولاد المسلمين ، فهم مع آبائهم ، وإن كان من أولاد المشركين ، فالله أعلم بما كان عاملا لو أدركه ، كما في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ، فقال صلى الله عليه وسلم : الله - تعالى - إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين . وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : [ ص: 94 ] سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين ، فقال صلى الله عليه وسلم : الله أعلم بما كانوا عاملين .


      وبعد هذا رسله قد أرسلا     لهم وبالحق الكتاب أنزلا
      لكي بذا العهد يذكروهم     وينذروهم ويبشروهم
      كي لا يكون حجة للناس بل     لله أعلى حجة عز وجل
      فمن يصدقهم بلا شقاق     فقد وفى بذلك الميثاق
      وذاك ناج من عذاب النار     وذلك الوارث عقبى الدار
      ومن بهم وبالكتاب كذبا     ولازم الإعراض عنه والإبا
      فذاك ناقض كلا العهدين     مستوجب للخزي في الدارين



      ( وبعد هذا ) أي الميثاق الذي أخذه عليهم في ظهر أبيهم ، ثم فطرهم وجبلهم على الإقرار به ، وخلقهم شاهدين به ( رسله ) بإسكان السين للوزن مفعول ( أرسل ) مقدم ( قد أرسلا ) بألف الإطلاق ( لهم ) أي إليهم ( وبالحق ) متعلق بأنزل أي بدين الحق ، ( الكتاب ) جنس يشمل جميع الكتب المنزلة على جميع الرسل ( أنزلا ) بألف الإطلاق ، والأمر الذي أرسل الله - تعالى - به الرسل إلى عباده ، وأنزل عليهم به الكتب ، هو ( لكي بذا العهد ) الميثاق الأول ( يذكروهم ) تجديدا له ، وإقامة لحجة الله البالغة عليهم ، ( وينذروهم ) عقاب الله إن هم عصوه ونقضوا عهده ، ( ويبشروهم ) بمغفرته ورضوانه إن هم وفوا بعهده ، ولم ينقضوا ميثاقه ، وأطاعوه وصدقوا رسله ، والحكمة في ذلك لـ ( كي لا يكون حجة ) على الله - عز وجل - ( للناس بل لله ) على جميع عباده [ ص: 95 ] ( أعلى حجة ) أبلغها وأدمغها ( عز ) سلطانه ، ( وجل ) شأنه عن أن يكون لأحد عليه حجة ، كما قال - تعالى - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتم الرسل ، والمصدق لما جاءوا به ، وكتابه مصدق لما بين يديه مما معهم من الكتب ، ومهيمن عليه ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) ( النساء : 163 - 165 ) ، وقال - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ) ، ( الحج : 49 - 51 ) ، وقال تعالى له صلى الله عليه وسلم : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) ، ( الأحزاب : 45 - 47 ) الآيات . وقال - تعالى - له : ( إن أنت إلا نذير ) ، وقال تعالى : ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) ، ( سبأ : 46 ) الآيات . وقال تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) ( البقرة : 24 - 25 ) الآية . وغير ذلك من الآيات التي يخبر الله - تعالى - فيها أنه ما أرسل من رسول إلا داعيا إلى عبادة الله - عز وجل - لا شريك له ، والكفر بما سواه من الأنداد ، ومبشرا لمن صدقه وأطاعه بالجنة ، ونذيرا لمن كذبه وعصاه من النار . ثم أخبر - تعالى - أن المراد بذلك ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ( النساء : 165 ) ، وقال تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة ) ، ( الأنعام : 149 ) . وتقدير البحث في الرسالة ، واتفاق الرسل في دعوتهم يأتي في بابه ، إن شاء الله عز وجل .

      ( فمن يصدقهم ) يعني الرسل ( بلا شقاق ) تكذيب ولا مخالفة ( فقد وفى ) لربه - عز وجل - ( بذلك الميثاق ) العهد الأول ، وهؤلاء هم القليل من الثقلين ، ولكن هم جند الله الغالبون المنصورون في الدنيا ، وحزبه المفلحون الفائزون في الآخرة ، وجواب الشرط ( فذاك ناج من عذاب النار ) إذ لم يرتكب [ ص: 96 ] أسباب دخولها من معصية الله ، وتكذيب رسله ، كما ارتكب ذلك من خلق لها ، ( وذلك الوارث عقبى الدار ) وهي الجنة لفعله أسبابها التي أمره الله - عز وجل - بها من الوفاء بعهد الله وميثاقه ، وتصديق رسله وكتبه ، والعمل بجميع طاعته ، تبارك وتعالى . ( ومن بهم ) أي بالرسل ( وبالكتاب ) أي الكتب التي أنزل الله عليهم ليبلغوها إلى عباده ، ويبينوها ليعملوا بما فيها ( كذبا ) ، ( ولازم الإعراض عنه ) عما أرسل الله به رسله ( والإبا ) أي الامتناع ، وهم الذين قال الله - تعالى - فيهم : ( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون ) ، ( غافر : 70 ) الآيات ، وقال - تعالى - فيهم : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) ، ( طه 124 ) الآيات وغيرها ، وهؤلاء أكثر الثقلين كما قال الله تبارك وتعالى : ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) ، ( الإسراء : 89 ) ، وقال تعالى : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) ، ( الأعراف : 102 ) ، وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ، ( الأنعام : 116 ) وغير ذلك من الآيات ، وجواب الشرط ( فذاك ) أي المكذب بالكتاب وبما أرسل الله - تعالى - به رسله ، الآبي منه ، المعرض عنه ، المصر على ذلك حتى مات عليه هو ( ناقض كلا العهدين ) الميثاق الذي أخذه الله عليه ، وفطره على الإقرار به ، وما جاءت به الرسل من تجديد الميثاق الأول ، وإقامة الحجة ( مستوجب ) بفعله ذلك ( للخزي في الدارين ) أي في الدنيا والآخرة ، كما قال الله تعالى : ( وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ) ، ( القصص : 42 ) ، وقد وفى بذكر الفريقين الموفين بالعهد والناقضين له ، وما لكل منهم وما عليه في الدنيا والآخرة قول الله عز وجل : ( للذين استجابوا لربهم ) أي فيما دعاهم إليه على ألسنة رسله ، وهم الفريق الأول ( الحسنى ) الجنة ( والذين لم يستجيبوا له ) وهم الفريق الثاني ( لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ) ، ( الرعد : 18 ) ، وتأويل ذلك ما ورد في الصحيحين من طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يقول الله - تعالى - لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة : لو أن لك ما في الأرض من شيء ، أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم . فيقول : أردت منك أهون من هذا ، وأنت في صلب [ ص: 97 ] آدم ، أن لا تشرك بي شيئا ، فأبيت إلا أن تشرك بي . وقد تقدم ذكره قريبا .

      ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق ) يعني الفريق الأول ، ( كمن هو أعمى ) يعني الفريق الثاني ، لا والله ليسوا سواء ( إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) يتناول كل العهود والمواثيق التي أمر الله - عز وجل - بالوفاء بها مع الحق ومع الخلق ، وتناولها للميثاق المذكور من باب أولى ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) من صلة الأرحام ، ومن الإيمان بالله ورسله ، وعدم التفريق بين أحد منهم ، ( ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ) على قدر الله ، وعلى ملازمة طاعته ، وعن معصيته ( ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ) . فكأنه قيل : ما هي ؟ فقال تعالى : ( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . ثم ذكر الفريق الثاني بصفاتهم السيئة وبين جزاءهم عليها والعياذ بالله تعالى ، فقال تعالى : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ، ( الرعد : 18 - 25 ) ، فسبحان الله وبحمده ، ما أبلغ حكمته ، وأعدل حكمه ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية