الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والبغوي ) نسبة لبلدة من بلاد خراسان بين مرو وهراة يقال لها : بغ ، وهو الإمام الفقيه المفسر الحافظ الملقب : محيي السنة أبو محمد ركن الدين الحسين بن مسعود ، [ ص: 108 ] ويعرف بابن الفراء لكونها صنعة أبيه ، مصنف معالم التنزيل في التفسير ، وشرح السنة ، والمصابيح في الحديث ، [ والجمع بين الصحيحين بإسنادهما مع حذف المكررات ] ، والتهذيب في الفقه .

وكان سيدا زاهدا قانعا ، يأكل الخبز وحده فليم في ذلك ، فصار يأكله بالزيت ، مات بمرو الروذ ، في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة ( 516 هـ ) وقد أشرف على التسعين ظنا ، ودفن عند شيخه القاضي حسين .

( إذ قسم ) كتابه ( المصابحا ) بحذف الياء تخفيفا ، جمع مصباح ; وهو السراج ( إلى الصحاح والحسان ، جانحا ) أي : سائرا إلى أن الصحاح ما رواه الشيخان في صحيحهما أو أحدهما .

و ( الحسان ما رووه ) أي : أبو داود والترمذي ، وغيرهما من الأئمة ، كالنسائي والدارمي وابن ماجه ( في السنن ) من تصانيفهم مما يتضمن مساعدة ابن الصلاح ; لاستلزامه تحسين المسكوت عليه عند أبي داود رد ( عليه ) فقال النووي : إنه ليس بصواب ، وسبقه ابن الصلاح فقال : إنه اصطلاح لا يعرف ، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك ، ( إذ بها ) أي : بكتب السنن المشار إليها ( غير الحسن ) من الصحيح والضعيف .

فقد ( كان أبو داود ) يتتبع من حديثه ( أقوى ما وجد ) بالبناء للمفعول كما رأيته بخط الناظم ، ويجوز بناؤه للفاعل ، وهو أظهر في المعنى ، وإن كان الأول أنسب ( يرويه و ) يروي الحديث ( الضعيف ) أي : من قبل سوء حفظ راويه ، ونحو ذلك ; كالمجهول عينا أو حالا ، لا مطلق الضعف الذي يشمل ما كان راويه متهما بالكذب .

( حيث لا يجد في الباب ) حديثا ( غيره فذاك ) أي : الحديث الضعيف ( عنده ، من رأي ) أي : من جميع آراء الرجال ( أقوى ) كما ( قاله ) أي : كونه يخرج الضعيف ويقدمه على الآراء ، الحافظ أحد أكابر هذه الصناعة ، ممن جاب وجال ، ولقي الأعلام [ ص: 109 ] والرجال ، وشرق وغرب ، وبعد وقرب .

أبو عبد الله ( ابن منده ) وهو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى العبدي الأصبهاني ، و " منده " لقب لوالده يحيى ، واسمه فيما يقال : إبراهيم بن الوليد .

مات في سلخ ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ( 395هـ ) عن نحو أربع وثمانين سنة .

[ قال البزدوي : لأن الخبر في الغالب يقين في أصله ، وإنما دخلت الشبهة في نقله ، والراوي محتمل بأصله في كل وصف على الخصوص ، وكان الاحتمال في الرأي أصلا ، وفي الحديث عارضا ، وأبو داود تابع في ذلك شيخه الإمام أحمد .

فقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه . قال : سمعت أبي يقول : لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل ، والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي .

قال : فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه ، وصاحب رأي فمن يسأل ؟ قال : يسأل صاحب الحديث ، ولا يسأل صاحب الرأي .

[ ونحوه ما للدارمي عن الشعبي أنه قال : ما حدثك هؤلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فخذ به ، وما قالوه برأيهم ، فألقه في الحش .

وللبغوي في شرح [ ص: 110 ] السنة عنه : إنما الرأي بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلتها ] .

وكذا نقل ابن المنذر أن أحمد كان يحتج بعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، إذا لم يكن في الباب غيره .

وفي رواية عنه أنه قال لابنه : لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي ، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ، ولكنك يا بني ، تعرف طريقتي في الحديث ، إني لا أخالف ما يضعف ، إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه .

وذكر ابن الجوزي في الموضوعات أنه كان يقدم الضعيف على القياس ، بل حكى الطوفي عن التقي ابن تيمية أنه قال : اعتبرت مسند أحمد ، فوجدته موافقا لشرط أبي داود . انتهى .

ونحو ما حكي عن أحمد ما سيأتي في المرسل حكاية عن الماوردي ، مما نسبه لقول الشافعي في الجديد ; أن المرسل يحتج به إذا لم يوجد دلالة سواه .

وزعم ابن حزم أن جميع الحنفية على أن مذهب إمامهم أيضا أن ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس ، على أن بعضهم - كما حكاه المؤلف في أثناء من تقبل روايته وترد من النكت - حمل قول ابن منده على أنه أريد بالضعيف هنا الحديث الحسن ، وهو بعيد .

[ ص: 111 ] وكلام أبي داود في رسالته التي وصف فيها كتابه ، إلى أهل مكة - مشعر بخلافه ; فإنه قال : سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب ؟ فاعلموا أنه كذلك كله ، إلا أن يكون قد روي من وجهين صحيحين ، وأحدهما أقدم إسنادا ، والآخر صاحبه قدم في الحفظ ، فربما كتبت ذلك ، أي : الذي هو أقدم إسنادا ، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث .

ولم أكتب في الباب إلا حديثا أو حديثين ، وإن كان في الباب أحاديث صحاح ، فإنها تكثر ، وإنما أردت قرب منفعته ، فإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين وثلاثة ، فإنما هو من زيادة كلام فيه ، وربما تكون فيه كلمة زائدة على الأحاديث .

وربما اختصرت الحديث الطويل ; لأني لو كتبته بطوله ، لم يعلم بعض من يسمعه المراد منه ، ولا يفهم وضع الفقه منه ، فاختصرته لذلك ، إلى أن قال : وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء ، وإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر ، وليس على نحوه في الباب غيره .

قال : وقد ألفته نسقا على ما صح عندي ; فإن ذكر لك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ليس فيما خرجته ، فاعلم أنه حديث واه ، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر ، فإني لم أخرج الطرق ; لأنه يكثر على المتعلم ، ولا أعلم أحدا جمع على الاستقصاء غيري . . . إلى آخر الرسالة . وقد روينا أنه عرض سننه على شيخه أحمد ، فاستحسنه .

وكذا فيما حكى ابن منده أيضا مما سمعه بمصر من محمد بن سعد البارودي ، كان الحافظ أبو عبد الرحمن ( النسائي ) صاحب السنن والآتي [ ص: 112 ] في الوفيات ، لا يقتصر في التخريج على المتفق على قبولهم .

بل ( يخرج ) حديث ( من لم يجمعوا ) أي : أئمة الحديث ( عليه تركا ) أي : على تركه ، حتى إنه يخرج للمجهولين حالا وعينا ; للاختلاف فيهم - كما سيأتي - وهو كما زاده الناظم ، ( مذهب متسع ) يعني : إن لم يرد إجماع خاص ، كما قرره شيخنا ; حيث قال : إن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط ; فمن الأولى شعبة والثوري ، وشعبة أشدهما .

ومن الثانية يحيى القطان وابن مهدي ، ويحيى أشدهما ، ومن الثالثة ابن معين وأحمد ، وابن معين أشدهما ، ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري ، وأبو حاتم أشدهما .

فقال النسائي : لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه ، فأما إذا وثقه ابن مهدي ، وضعفه القطان مثلا ، فإنه لا يترك ; لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد .

وحينئذ فقول ابن منده : " وكذلك أبو داود يأخذ مأخذ النسائي " يعني في عدم التقيد بالثقة ، والتخريج لمن ضعف في الجملة ، وإن اختلف صنيعهما .

وقول المنذري في مختصر السنن له حكاية عن ابن منده : إن شرط أبي داود والنسائي إخراج حديث قوم لم يجمع على تركهم ، إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال - محمول على هذا ، وإلا فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي ، تجنب النسائي إخراج حديثه ، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الشيخين ، حتى قال بعض الحفاظ : إن شرطه في الرجال أشد من شرطهما .

[ ص: 113 ] على أنه قد انتصر التاج التبريزي للبغوي ، وقال : إنه لا مشاحة في الاصطلاح ، بل تخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب .

والبغوي قد صرح في ابتداء كتابه بقوله : أعني بالصحاح كذا ، وبالحسان كذا ، وما قال : أراد المحدثون بهما كذا ، فلا يرد عليه شيء مما ذكره خصوصا .

وقد قال : وما كان فيها من ضعيف أو غريب ، أشرت إليه ، وأعرضت عما كان منكرا أو موضوعا ، وأيده شيخنا بحكمه في قسم الحسان بصحة بعض أحاديثه تارة ، إما نقلا عن الترمذي أو غيره ، وضعفه أخرى بحسب ما يظهر له من ذلك ; إذ لو أراد بالحسان الاصطلاح العام ، ما نوعه .

ولا تضر المناقشة له في ذكره ما يكون منكرا بعد التزامه الإعراض عنه ; كقوله في باب السلام من الأدب : ويروى عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، السلام قبل الكلام . وهذا منكر ، ولا تصريحه بالصحة والنكارة في بعض ما أطلق عليه الحسان .

كما لا يضره ترك حكاية تنصيص الترمذي في بعضها بالصحة أحيانا ، ولا إدخاله في الفصل الأول المسمى بالصحاح عدة روايات ليست في الصحيحين ، ولا في أحدهما مع التزامه الاقتصار عليهما ; لأن ذلك يكون لأمر خارجي يرجع إلى الذهول ونحوه ، بل أحسن من هذا في العذر عنه بالنسبة إلى الأخير فقط أنه يذكر أصل الحديث منهما أو من أحدهما .

ثم يتبع ذلك باختلاف لفظه ، ولو بزيادة في نفس ذلك الخبر يكون بعض من خرج السنن أوردها ، فيشير هو إليها لكمال الفائدة .

( ومن عليها ) أي : السنن كلها أو بعضها ( أطلق الصحيحا ) كالحاكم والخطيب ; حيث أطلقا الصحة على الترمذي ، وابن منده وابن السكن على كتابي أبي داود والنسائي ، والحاكم على أبي داود ، وجماعة منهم أبو علي النيسابوري [ ص: 114 ] وأبو أحمد بن عدي والدارقطني والخطيب على كتاب النسائي ; حتى شذ بعض المغاربة ، ففضله على كتاب البخاري ، كما قدمته في " أصح كتب الحديث " مع رده .

التالي السابق


الخدمات العلمية