الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال الأستاذ : وهذا رد لاستدلالهم ببعض آيات القرآن على تمييز عيسى على غيره من البشر ; إذ ورد فيه أنه روح الله وكلمته . فهو يقول : إن هذه الآيات من المتشابهات التي اشتبه عليكم معناها حتى حاولتم جعلها ناقضة للآيات المحكمة في توحيد الله وتنزيهه .

                          ( بحث المحكم والمتشابه ) أقول : المحكمات من أحكم الشيء بمعنى : وثقه وأتقنه . والمعنى العام لهذه المادة المنع ، فإن كل محكم يمنع بإحكامه تطرق الخلل إلى نفسه أو غيره ، ومنه الحكم والحكمة وحكمة الفرس ، قيل وهي أصل المادة . و " المتشابه " يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا ، وعلى ما يشتبه من الأمر أي يلتبس . قال في الأساس : " وتشابه الشيئان واشتبها ، وشبهته به وشبهته إياه واشتبهت الأمور وتشابهت : التبست لإشباه بعضها بعضا . وفي القرآن المحكم والمتشابه ، وشبه عليه الأمر : لبس عليه ، وإياك والمشتبهات: الأمور المشكلات " وقد وصف القرآن بالإحكام على الإطلاق في أول سورة هود بقوله : كتاب أحكمت آياته [ 11 : 1 ] وهو من إحكام النظم وإتقانه أو من الحكمة التي اشتملت آياته عليها ، ووصف كله بالمتشابه في سورة الزمر الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [ 39 : 23 ] أي يشبه بعضه بعضا في هدايته وبلاغته وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 : 82 ] أما قوله - تعالى - في سورة البقرة : وأتوا به متشابها [ 2 : 25 ] فمفهومه أن ما جيئوا به من الثمرات أخيرا يشبه ما رزقوه من قبل وأنهم اشتبهوا به لهذا التشابه .

                          وقالوا : إن الأصل في ورود التشابه بمعنى المشكل الملتبس أن يكون الالتباس فيه بسبب شبهه لغيره ، ثم أطلق على كل ملتبس مجازا وإن كان ظاهر الأساس أن المعنيين حقيقتان فيه ، ولا شك أن القرآن يصح أن يوصف كله بالمحكم وبالمتشابه من حيث هو متقن ويشبه بعضه بعضا فيما ذكر . والتقسيم في هذه الآية مبني على استعمال كل من المحكم والمتشابه في معنى خاص ; ولذلك اختلف فيه المفسرون على أقوال :

                          ( أحدها ) أن المحكمات هي قوله - تعالى - في سورة الأنعام : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [ 6 : 151 ] إلى آخر الآية والآيتين اللتين بعدها . والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور ; وذلك [ ص: 136 ] أنهم أولوها على حساب الجمل ، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه . وهذا القول مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما ، وزعم الفخر الرازي أن المراد به : أن المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كالوصايا في تلك الآيات الثلاث ، والمتشابه ما يسمى بالمجمل ، أو هو ما تكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية إلا بدليل منفصل . وهذا رأي مستقل يجعل المعنى الخاص عاما وهو لا يفهم من هذه الرواية .

                          ( ثانيها ) أن المحكم هو الناسخ ، والمتشابه هو المنسوخ وهو مروي عن ابن عباس أيضا وعن ابن مسعود وغيرهما .

                          ( ثالثها ) أن المحكم ما كان دليله واضحا لائحا ، كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ، والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل . عزاه الرازي إلى الأصم وبحث فيه .

                          ( رابعها ) أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي ، والمتشابه : ما لا سبيل إلى العلم به ، كوقت قيام الساعة ومقادير الجزاء على الأعمال .

                          وهذه الأربعة ذكرها الرازي ، وكأنه لم يطلع على غيرها ، وفي تفسير ابن جرير وغيره أقوال أخرى مروية عن المفسرين منها ما يقرب من بعض ما ذكر فنوردها في سياق العدد .

                          ( خامسها ) أن المحكمات : ما أحكم الله فيها بيان حلاله وحرامه ، والمتشابه منها : ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلف ألفاظه . رواه ابن جرير عن مجاهد وعبارته عنده :

                          محكمات ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو متشابه يصرف بعضه بعضا وهو مثل قوله : وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 : 26 ] ومثل قوله : كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [ 6 : 125 ] ومثل قوله : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 : 17 ] وكأن مجاهدا يعني بالمتشابه : ما فيه إبهام أو عموم أو إطلاق ، أو كل ما لم يكن حكما عمليا ، فهو عنده خاص بالإنشاء دون الخبر .

                          ( سادسها ) أن المحكم من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه : ما احتمل من التأويل أوجها ، رواه ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وعبارته عنده هكذا : آيات محكمات هن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه ، وأخر متشابهة في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق اهـ . وعبارة ابن جرير في حكايته عنه تجعل المحكم بمعنى النص عند الأصوليين والمتشابه ما يقابله .

                          ( سابعها ) أن التقسيم خاص بالقصص ، فالمحكم منها ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء [ ص: 137 ] مع أممهم ، والمتشابه : ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ، وأطال في التمثيل له .

                          ( ثامنها ) أن المتشابه : ما يحتاج إلى بيان وهو مروي عن الإمام أحمد والمحكم : ما يقابله .

                          ( تاسعها ) أن المتشابه : ما يؤمن به ولا يعمل به . ذكره ابن تيمية ، والظاهر أنه جميع الأخبار ، فالمحكم : هو قسم الإنشاء .

                          ( عاشرها ) أن المتشابه : آيات الصفات ( أي صفات الله ) خاصة ومثلها أحاديثها ، ذكره ابن تيمية أيضا .

                          وقال الأستاذ الإمام في معنى المتشابهات : التشابه إنما يكون بين شيئين فأكثر ، وهو لا يفيد عدم فهم المعنى مطلقا كما قال المفسر ( الجلال ) ووصف التشابه في هذه الآية هو للآيات باعتبار معانيها ، أي إنك إذا تأملت في هذه الآية تجد معاني متشابهة في فهمها من اللفظ لا يجد الذهن مرجحا لبعضها على بعض . وقالوا أيضا : إن المتشابه ما كان إثبات المعنى فيه للفظ الدال عليه ونفيه عنه متساويان ، فقد تشابه فيه النفي والإثبات أو ما دل فيه اللفظ على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح ، كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته ، فهذا هو المتشابه الذي يقابله المحكم الذي لا ينفي العقل شيئا من ظاهر معناه ، أما كون المحكمات هن أم الكتاب فمعناه أنهن أصله وعماده أو معظمه ، وهذا ظاهر لكنه لا ينطبق إلا على بعض الأقوال .

                          وقال الأستاذ الإمام إن معنى ذلك أنها هي الأصل الذي دعي الناس إليه ويمكنهم أن يفهموها ويهتدوا بها ، وعنها يتفرع غيرها وإليها يرجع ، فإن اشتبه علينا شيء نرده إليها ، وليس المراد بالرد أن نئوله بل أن نؤمن بأنه من عند الله وأنه لا ينافي الأصل المحكم الذي هو أم الكتاب وأساس الدين الذي أمرنا أن نأخذ به على ظاهره الذي لا يحتمل غيره إلا احتمالا مرجوحا . مثال هذه المتشابهات قوله - تعالى - : الرحمن على العرش استوى [ 20 : 5 ] وقوله : يد الله فوق أيديهم [ 48 : 10 ] وقوله - تعالى - : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 : 171 ] هذا رأي جمهور المفسرين ، وذهب جمهور عظيم منهم إلى أنه لا متشابه في القرآن إلا أخبار الغيب ، كصفة الآخرة وأحوالها من نعيم وعذاب .

                          فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله

                          قال الأستاذ الإمام : معنى اتباعه ابتغاء الفتنة أنهم يتبعونه بالإنكار والتنفير استعانة بما في أنفس الناس من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وشئون تلك الحياة الأخرى . وابتغاء الفتنة بالنسبة إلى الوجه الأول في معنى المتشابه : هو أن يتبع أهل [ ص: 138 ] الزيغ من المشركين والمجسمة مثل قوله - تعالى - : وروح منه فيأخذونه على ظاهره من غير نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم ويختلبوهم بشبهتهم فيقولون : إن الله روح والمسيح روح منه ، فهو من جنسه وجنسه لا يتبعض فهو هو . فالتأويل هنا بمعنى الإرجاع . أي أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد ، وأما ابتغاء تأويله فهو أنهم يطبقونه على أحوال الناس في الدنيا فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس عن الدين بالمرة ، والقرآن مملوء بالرد عليهم كقوله - تعالى - : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 : 79 ] وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا قال بعض السلف إن قوله : والراسخون في العلم كلام مستأنف ، وبعضهم : أنه معطوف على لفظ الجلالة .

                          قال الأستاذ الإمام: استدل الذين قالوا بالوقف عند لفظ الجلالة وبكون ما بعده استئنافا بأدلة ( منها ) أن الله - تعالى - ذم الدين يتبعون تأويله و ( منها ) قوله : يقولون آمنا به كل من عند ربنا فإن ظاهر الآية التسليم المحض لله تعالى ، ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض وهذا رأي كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - كأبي بن كعب وعائشة ، وذهب ابن عباس وجمهور من الصحابة إلى القول الثاني . كان ابن عباس يقول : " أنا من الراسخين في العلم أنا أعلم تأويله " . وقالوا في استدلال أولئك : إن الله - تعالى - إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة ، والراسخون في العلم ليسوا كذلك ; فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب ، فهؤلاء يفيض الله - تعالى - عليهم فهم المتشابه بما يتفق مع المحكم . وأما دلالة قولهم : آمنا به كل من عند ربنا على التسليم المحض فهو لا ينافي العلم ، فإنهم إنما سلموا بالمتشابه في ظاهره أو بالنسبة إلى غيرهم لعلمهم باتفاقه مع المحكم فهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون ولا يتزعزعون بل يؤمنون بهذا وبذاك على حد سواء ؛ لأن كلا منهما من عند الله ربنا ، ولا غرو فالجاهل في اضطراب دائم والراسخ في ثبات لازم . ومن اطلع على ينبوع الحقيقة لا تشتبه عليه المجاري فهو يعرف الحق بذاته ويرجع كل قول إليه قائلا : آمنا به كل من عند ربنا .

                          هذا ما قاله الأستاذ الإمام في بيان التفسير المأثور في الآية ثم قال : بينا أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة أو ما خالف ظاهر لفظه المراد منه وورود المتشابه بالمعنى الأول في القرآن ضروري ؛ لأن من أركان الدين ومقاصد الوحي الإخبار بأحوال [ ص: 139 ] الآخرة ، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك على أنه من الغيب كما نؤمن بالملائكة والجن ، ونقول : إنه لا يعلم تأويل ذلك أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله ، والراسخون في العلم وغيرهم في هذا سواء ، وإنما يعرف الراسخون ما يقع تحت حكم الحس والعقل فيقفون عند حدهم ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل عن عالم الغيب ؛ لأنهم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه وإنما سبيله التسليم فيقولون : آمنا به كل من عند ربنا ، فعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة لازما ، وإنما خص الراسخين بما ذكر ؛ لأنهم هم الذين يفرقون بين المرتبتين ما يجول فيه علمهم وما لا يجول فيه ، ومن المحال أن يخلو الكتاب من هذا النوع فيكون كله محكما بالمعنى الذي يقابل المتشابه . ومن الشواهد على أن التأويل هنا بمعنى ما يئول إليه الشيء وينطبق عليه لا بمعنى ما يفسر به ، قوله - تعالى - : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق [ 7 : 53 ] فتبين مما قررناه أن لا يقال على هذا : لماذا كان القرآن منه محكم ومنه متشابه ؟ لأن المتشابه بهذا المعنى من مقاصد الدين فلا يلتمس له سبب ؛ لأنه جاء على أصله .

                          ( قال ) : وأما التفسير الثاني للمتشابه ، وهو كونه ليس قاصرا على أحوال الآخرة بل يتناول غيرها من صفات الله التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها وصفات الأنبياء التي من هذا القبيل نحو قوله - تعالى - : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 : 171 ] فإن هذا مما يمنع الدليل العقلي السمعي من حمله على ظاهره ، فهذا هو الذي يأتي الخلاف في علم الراسخين بتأويله - كما تقدم - فالذين قالوا بالنفي جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتسليم والتفويض هي تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كل حكمه كما تقدم آنفا وأما القائلون بالإثبات الذين يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله أو أنبيائه إلى أم الكتاب الذي هو المحكم ويأخذون من مجموع المحكم ما يمكنهم من فهم المتشابه ، فهؤلاء يقولون إنه ما خص الراسخين بهذا العلم إلا لبيان منع غيرهم من الخوض فيه ، قال : فهذا خاص بالراسخين لا يجوز تقليدهم فيه ، وليس لغيرهم التهجم عليه ، وهذا خاص بما لا يتعلق بعالم الغيب .

                          قال وهاهنا يأتي السؤال : لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ؟ ولم لم يكن كله محكما يستوي في فهمه جميع الناس ، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية بما يوقع اللبس في العقائد . ويفتح باب الفتنة لأهل التأويل ؟ أقول : وقد ذكر الرازي هذا السؤال مفصلا ، وذكر للعلماء خمسة أجوبة عنه ، قال في المسألة الرابعة من مسائل الآية : إن بعض الملحدة طعن في القرآن لاشتماله على المتشابهات ، وقال إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، وذكر شيئا من احتجاج الجبرية والقدرية وغيرهم ، [ ص: 140 ] وقال : إن صاحب كل مذهب يعد ما دل عليه من المحكم وما يخالفه من المتشابه ويلجأ إلى التأويل وإن كان ضعيفا . ( قال ) : أليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض في دينه ؟ ثم قال : إن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوها ونحن ننقلها كما أوردها باختصار قليل لا يضيع شيئا من المعنى وهي :

                          ( الوجه الأول ) أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب . قال الله - تعالى - : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 : 142 ] .

                          ( الثاني ) لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقاله فحينئذ ينظر فيه جميع أصحاب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله ويصل إلى الحق .

                          ( الثالث ) أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة .

                          ( الرابع ) لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه .

                          ( الخامس ) وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب اشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي في التعطيل ، فكان الأصح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات ، فهذا ما حضرنا في هذا الباب . والله أعلم . اهـ .

                          أقول : إنه - رحمه الله تعالى - لم يأت بشيء نير ، ولم يحسن بيان ما قاله العلماء ، وأسخف هذه الوجوه وأشدها تشوها الثاني ولا أدري كيف أجاز له عقله أن يقول : إن القرآن جاء بالمتشابهات ليستميل أهل المذاهب إلى النظر فيه وأن هذا طريق إلى الحق ؟ أين كانت هذه المذاهب عند نزوله ؟ ومن اهتدى من أهلها بهذه الطريقة ؟ ويقرب من هذا ما قاله في بيان [ ص: 141 ] السبب الأقوى من دعوة العوام إلى المتشابه أولا ! ! ! وهاك أيها القارئ ما قاله الأستاذ الإمام في بيان أجوبة العلماء وهي عنده ثلاثة :

                          ( 1 ) إن الله أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به ، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله - تعالى - والتسليم لرسله .

                          ( 2 ) جعل الله المتشابه في القرآن حافزا لعقل المؤمن إلى النظر كيلا يضعف فيموت فإن السهل الجلي جدا لا عمل للعقل فيه ، والدين أعز شيء على الإنسان ، فإذا لم يجد فيه مجالا للبحث يموت فيه ، وإذا مات فيه لا يكون حيا بغيره ، فالعقل شيء واحد إذا قوي في شيء قوي في كل شيء ، وإذا ضعف ضعف في كل شيء ولذلك قال : والراسخون في العلم ولم يقل: والراسخون في الدين ؛ لأن العلم أعم وأشمل ، فمن رحمته - تعالى - أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، فهو يبحث أولا في تمييز المتشابه من غيره وذلك يستلزم البحث في الأدلة الكونية والبراهين العقلية وطرق الخطاب ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدي إلى تأويله . وهذا الوجه لا يأتي إلا على قول من عطف والراسخون على لفظ الجلالة ، وليكن كذلك .

                          ( 3 ) إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم سواء كانت بعثتهم لأقوامهم خاصة كالأنبياء السالفين - عليهم السلام - أو لجميع البشر كنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا كانت الدعوة إلى الدين موجهة إلى العالم والجاهل والذكي والبليد والمرأة والخادم ، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه كل مخاطب عاميا كان أو خاصيا ، ألا يكون في ذلك من المعاني العالية والحكم الدقيقة ما يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله - تعالى - ، والوقوف عند حد المحكم ، فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده . مثال ذلك : إطلاق لفظ كلمة الله وروح من الله على عيسى ، فالخاصة يفهمون من هذا ما لا يفهمه العامة ; ولذلك فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله جنس أو أم أو ولد ، والمحكم عندنا في هذا قوله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم [ 3 : 59 ] وسيأتي في هذه السورة . وأقول : وعندهم مثل قول المسيح في إنجيل يوحنا " [ ( 17 : 3 ) ] وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " .

                          ( قال ) : ومن المتشابه ما يحتمل معاني متعددة وينطبق على حالات مختلفة لو أخذ منها أي معنى وحمل على أية حالة لصح ، ويوجد هذا النوع في كلام جميع الأنبياء وهو على [ ص: 142 ] حد قوله - تعالى - : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 : 24 ] ومنه إبهام القرآن لمواقيت الصلاة لحكمة ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في بلاد العرب المعتدلة بالأوقات الخمسة للصلوات الخمس ، وما كانت العرب تعلم أن في الدنيا بلادا لا يمكن تحديد هذه المواقيت فيها ، كالبلاد التي تشرق فيها الشمس نحو ساعتين لا يزيد نهار أهلها على ذلك ، أشار القرآن إلى مواقيت الصلاة بقوله : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون [ 30 : 17 ، 18 ] وسبب هذا الإبهام أن القرآن دين عام لا خاص ببلاد العرب ونحوها ، فوجب أن يسهل الاهتداء به حيثما بلغ ، ومثل هذا الإجمال والإبهام في مواقيت الصلاة يجعل لعقول الراسخين في العلم وسيلة للمراوحة فيه واستخراج الأحكام منه في كل مكان بحسبه . فأينما ظهرت الحقيقة وجدت لها حكما في القرآن ، وهذا النوع من المتشابه من أجل نعم الله - تعالى - ولا سبيل إلى الاعتراض على اشتمال الكتاب عليه .

                          وما يذكر إلا أولو الألباب قال الأستاذ الإمام : أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا أرباب القلوب النيرة والعقول الكبيرة ، وإنما وصف الراسخون بذلك ؛ لأنهم لم يكونوا راسخين إلا بالتعقل والتدبر لجميع الآيات المحكمة التي هي الأصول والقواعد ، حتى إذا عرض المتشابه بعد ذلك يتسنى لهم أن يتذكروا تلك القواعد المحكمة ، وينظروا ما يناسب المتشابه منها فيردونه إليه . أقول : وهذا التخريج يصدق على أحد الوجهين السابقين ، وأما على القول بأن المتشابه ما كان نبأ عن عالم الغيب فهم الذين يعلمون أن قياس الشاهد على الغائب قياس بالفارق اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية