الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 448 ] الفصل الثاني : في الغسل .

                                                                                                                وحكمته التأهب للقاء الملكين وهو واجب ، وقيل : سنة ، وفي مسلم : قال - عليه السلام - في ابنته : " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ، واغسلنها ثلاثا أو خمسا إن رأيتن ، واجعلن في الأخير شيئا من كافور " . فإن أعدنا الشرط على الجميع فقد وقف جملة الغسل على إرادتهن ، فلا يكون واجبا ، أو نقصره على العدد وهو الظاهر فيجب ; لأن الأمر للوجوب ، أو يقال : هذا خرج مخرج التعليم ، فلا يكون حجة إلا في الكيفية فقط ، وهو أيضا قاعدة صحيحة ; لأن الكلام إذا خرج في سياق الاستدلال به في غيره . وفي الفصل ثلاثة أنظار :

                                                                                                                النظر الأول في الغسل ، في الجواهر : أقله إمرار الماء على جملة الجسد مع الدلك ، وكماله حمله إلى موضع خال للسترة ، ويوضع على سرير ليبعد عن فساد العفن ويتمكن من غسله ، وينزع قميصه ليعبر الهوى إليه فيبعد عن الفساد ، وقاله ( ح ) ، خلافا ( ش ) محتجا بأنه - عليه السلام - غسل في قميصه . جوابه : الاتفاق على طهارته فشابه من يحمل القميص لنجاسته بخلاف غيره ، فإنه نجس على رأي ، وتستر عورته ، قال المازري : قال مالك في المدونة : السوءة فقط ، قال ابن حبيب : إلى الركبة ، وظاهر المذهب أن المرأة تستر من المرأة ما يستر الرجل من الرجل ، وعلى قول سحنون : جميع جسدها ، ولا يراعى الماء القراح ; لأن المقصود لقاء الملكين ، وإنما كره ماء الورد والقرنفل للسرف ; بل هو أفضل .

                                                                                                                [ ص: 449 ] وكره الغسل ، وإزالة النجاسة بماء زمزم احتراما له من نجاسة ، قال ابن أبي زيد : ولا وجه له عند مالك وأصحابه ، وهو محمول عند بعض أشياخي على القول بنجاسة الميت ، أما على القول بطهارته فهو أولى لبركته ، وأما المسخن فكرهه الشافعية لإرخائه ، واستحبه ( ح ) لإنقائه ، وفي الجواهر مخير بينهما ، ويبدأ بغسل يديه ; لقوله - عليه السلام - : " ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها ، ثم ينظف ليصادف الماء الطهور الأعضاء نظيفة طاهرة فلا يفسد ، ولا يفضي بيده إلى عورته إلا وعليها خرقة ، قال في المختصر : إلا لأمر لا بد منه ، ومنعه ابن حبيب مطلقا ، ويعصر بطنه إن احتاج إليه ، ويتعهد أسنانه ومنخره بخرقة مبلولة ، ثم يوضأ على المشهور ، قال المازري : قيل في الأولى ; لأنها هي الفرض ، فيكون الوضوء معها ، وقيل في الثانية ; لأن الأولى تنظيف ، وفي الجواهر : ثم يضجع على جنبه الأيسر ليبدأ بغسل الأيمن ، ثم على الأيمن وذلك غسلة واحدة ، ثم يفعل ذلك ثلاثا ، وفي تكرير الوضوء في كل واحدة خلاف ، قال المازري : قال بعض : على القول بالتكرار يكون الوضوء غسلة واحدة حتى لا يصل إلى الرابعة المحرمة . وفي الجواهر : فإن حصل الإنقاء وإلا فخمس أو سبع ثم ينشف ، قال ابن عبد الحكم : وينجس الثوب الذي ينشف به ، وقال التونسي : لا يصلى فيه حتى يغسل . وكذلك كل ما أصابه ماؤه ، وقال سحنون : طاهر ، ويستعمل السدر ولا يسقط الفرض إذا قلنا الغسل للعبادة ، فيغسل بالقراح ثم يضاف السدر بعد ذلك ، فإن تعذر السدر فما ينقي ، والسدر أفضل لتنقيته مع شدة الأعضاء ثم الكافور في الأخير لجمعه بين العطرية ومضادة العفن وشدة الأعضاء ، خلافا ( ح ) فيه ; لقوله - عليه السلام - في ابنته : " اغسلنها بماء وسدر ، واجعلن في الأخير شيئا من كافور " ، وإلا فغيره من الطيب ; فإن خرجت نجاسة بعد الغسل ، أزيلت ولم [ ص: 450 ] يعد الغسل ، قال المازري : وقال أشهب : يعاد الوضوء ، وقال ابن حنبل : يعاد الغسل ليحصل آخر أمره طهارة كاملة . وفي الجواهر : قال ابن حبيب : إذا كثر الأموات يكتفى بصب الماء ، ويدفن بغير غسل من لا أهل له ، ويجمع النفر في قبر واحد ، وفي الكتاب المجروح والمجدور الذي يخاف عليه أن يتزلع يصب عليه الماء ولا يتيمم . وفي الجلاب يؤخذ عزر القروح ولا تنكأ ، قال المازري : قال مالك : يغتسل من غسل الميت أحب إلي ، خلافا لابن حبيب ; لأنه إذا وطن نفسه على الغسل بالغ في إنقائه ; قال صاحب المقدمات : ولا يفتقر إلى نية ; لأنه غسل يفعل في الغير ، وكل غسل يفعل في الغير لا يفتقر إلى نية كغسل الإناء من ولوغ الكلب ، ولو قيل بالنية ولم يبعد . قال سند : فإن عدم الماء يمم عند مالك ، و ( ح ) و ( ش ) ، كما يتيمم الحي ، ولو كان الماء يكفي أحدهما وهو جنب والآخر ميت ; فالميت أولى عند ابن القاسم ، وقال ابن وهب الحي الجنب أولى .

                                                                                                                النظر الثاني في الغاسل ، قال المازري : قال مالك : لا أحب للجنب غسل الميت بخلاف الحائض ، واختاره ابن عبد الحكم ، وفي الجواهر : يغسل الرجل الرجل والمرأة المرأة ، والمرأة الصبي ابن سبع ، والرجل الصغيرة جدا دون السبع ، والفرق أن الصبية تشتهى للرجال في سن لا يشتهى الصبي فيه للنساء ، ومنع ابن القاسم في الصغيرة مطلقا ، والكبيرة لا يغسلها الأجنبي ولا تغسله ، بل ييممها إلى الكوعين ; لأنه مباح لذوي المحارم من المرأة وتيممه إلى المرفقين ; لما في أبي داود ، قال - عليه السلام - : " إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس معهم امرأة غيرها " ، أو الرجل مع النساء ليس معهن رجل غيره ، فإنهما ييممان [ ص: 451 ] ويدفنان ، ومباحة الوطء إلى حين الموت بملك يمين أو بنكاح صحيح أو فاسد لا يقتضي فساده الفسخ إلى حين الموت ، أو فيه خيار عيب أو فيه لتزويج الأبعد مع الأقرب يغسلها وتغسله ، ويمنع في الفاسد الذي يفسخ إلى حين الموت ، والذي عقده غير الولي على ذات القدر مع وجوده ، والرجعية على ما في الكتاب ، وأجازه ابن القاسم وقال : يحدث في إباحة الرؤية بالموت ما ليس قبله بسبب تجدد الميراث ، ولو تزوج أخت زوجته ، فأجاز ابن القاسم أن يغسلها ثم كرهه ، قال ابن حبيب : وإذا انقضت عدتها بوضع الحمل غسلته ، ووافقنا ( ش ) ، ومنع ( ح ) أن يغسل الزوج امرأته والسيد أمته ، وأجاز في الزوجة محتجا بأنها فرقة تبيح أختها ، فيحرم النظر إليها كالطلاق قبل الدخول . جوابه منع الحكم في الأصل على رأي أشهب ، ولئن سلمناه ; فالفرق أن الفرقة قبل الدخول تمنع الميراث ، والموت لا يمنعه فلا يمنع النظر . لنا ما في الموطأ : أن أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - غسلته . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أزواجه . ويروى أن عليا - رضي الله عنه - غسل فاطمة - رضي الله عنها - ، قال المازري : وإذا غسلت المرأة ، قال ابن الماجشون : لها أن تكفنه ولا تحنطه لمنع الإحداد من الطيب ، وفي الجواهر : يستر أحدهما عورة الآخر ، وأجاز ابن حبيب كشفها قياسا على الحياة ، ويغسل ذو المحرم من فوق ثوب ، قال ابن حبيب : ويصب الماء عليها من تحت الثوب ويجافيه ; لئلا يلصق بجسدها فيصفه ، وتغسله من فوق ثوب [ ص: 452 ] عند ابن القاسم ، وفي الكتاب : يغسلنه ويسترنه ، قال التونسي : وظاهره التجريد ، وروي استحباب التيمم فيهما ، ولو حضر كافر من جنس الميت ، فقال مالك : يعلمه من حضر من النساء ، ويعلمها من حضر من الرجال ، ومنع أشهب ولاية الكافر والكافرة للغسل لعدم الأمانة ، وجوزه سحنون مع الاحتياط بالتيمم ، قال مالك : ولا يغسل المسلم زوجته النصرانية ، ولا تغسله هي إلا بحضرة المسلمين ، وإذا اجتمع من يصلح للغسل بدئ بالزوج ، فإن عدم أو امتنع فالأولياء على مراتبهم ، وتقدم البنت وبنت الابن في حق المرأة ; كالابن وابن الابن في حق الرجل ، ثم على الترتيب ، ويقضى للزوجين به إن طلباه ، وقال سحنون : لا يقضى للزوجة ، والفرق أن الزوج يجوز لأوليائه رؤيته مجردا بخلافها ، والرقيق كالأحرار في الزوجية ، ويتوقف استيفاء الحق على السادات .

                                                                                                                النظر الثالث في المغسول : وهو ميت ليس بشهيد ، ولا فقد أكثره ، وفي الكتاب : كره تقليم أظفار الميت وحلق عانته ، واتباعه بالجمر ; خلافا لبعض الشافعية ، واختلف في حلق الرأس : قال مالك و ( ح ) : بدعة خلافا ( ش ) وابن حنبل ، واتفق الجميع على أنه لا يختن . لنا أن هذه لم تشتهر في السلف فتكون بدعة ، وقياسا على الختان ، قال سند : فلو أخطأ الغاسل ففعل ذلك ، ضم في الكفن ما زال مع الميت - قاله ابن حبيب وأشهب . قال سحنون : إن فعل المريض ذلك لتخفيف المرض فلا بأس ، وإن كان ليتهيأ للموت فلا ، قال سند [ ص: 453 ] ينبغي ألا يكره للموت ، ففي أبي داود : أن خبيبا لما اجتمع المشركون على قتله استعار موسى واستحد بها ، وموته على أحسن الهيئات أفضل ، قال ابن القاسم : ولا يظفر شعر المرأة ; لئلا ينثر بعضه وقاله ( ح ) ، خلافا لابن حبيب و ( ش ) وابن حنبل ، قالت أم عطية في الصحيح : ظفرنا شعر بنت النبي - عليه السلام - ثلاث ظفائر ناصيتها وقرنيها والتي من خلفها . قال أشهب : وينقى ما بين الأظفار من الوسخ ، وأما التجمير فله أربعة مواضع : عند خروج الروح ; كرهه مالك واستحسنه ابن حبيب ، وعند الغسل ; يستحب لقطع الروائح ولتجمير الثياب وهو متفق عليه ، وخلف الجنازة ; متفق على كراهته . قال - عليه السلام - في أبي داود : " لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ، ولأنه تفاؤل بالنار " .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية