الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأحاديث الواردة في شفاعة المؤمنين لأهاليهم : حكى بعضهم عن زبور داود عليه الصلاة والسلام أن فيه مكتوبا : يقول الله عز وجل : إن عبادي الزاهدين أقول لهم يوم القيامة : إني لم أزو عنكم الدنيا لهوانكم علي ، ولا لعزة الدنيا عندي ولكن أردت ذلك بكم لتستوفوا نصيبكم اليوم كاملا موفورا عندي ، لم تكلمه الدنيا ، ولم تشعثه الشهوات فتخللوا الصفوف ، فمن أحببتموه في الدنيا أو قضى لكم حاجة ، أو رد عنكم غيبة ، أو كساكم خرقة ، أو أطعمكم لقمة ، أو سقاكم شربة ؟ ابتغاء وجهي وطلب مرضاتي ، فخذوا بيده ، وأدخلوه الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الترمذي والبيهقي من طريق مالك بن مغول ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أمتي رجالا يشفع الرجل منهم في [ ص: 235 ] الفئام من الناس ، فيدخلون الجنة بشفاعته ، ويشفع الرجل للقبيلة ، فيدخلون الجنة بشفاعته ، ويشفع الرجل منهم للرجل وأهله ، فيدخلون الجنة بشفاعته " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البزار بسنده ، عن أنس بن مالك ، مرفوعا : " إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله من حديث سفيان الثوري ، عن آدم بن علي ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقال للرجل يوم القيامة : قم يا فلان فاشفع . فيقوم الرجل فيشفع للقبيلة ، ولأهل البيت ، وللرجل ، وللرجلين ، على قدر عمله " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن حديث الحسين بن واقد ، عن أبي غالب : أن أبا أمامة حدثه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من عدد مضر ، ويشفع الرجل في أهل بيته ، ويشفع على قدر عمله " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي عن الحاكم ، عن الأصم ، عن الحسن بن مكرم ، عن يزيد بن هارون ، أنبأنا حريز ، عن عبد الرحمن - أو عبد الله - بن ميسرة ، عن [ ص: 236 ] أبي أمامة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين - أو مثل أحد الحيين - ربيعة ، ومضر " . فقال رجل : يا رسول الله ، وما ربيعة من مضر ؟ فقال : " إنما أقول ما أقول " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق قال : جلست إلى رهط أنا رابعهم بإيلياء ، فقال أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم " . قلنا : سواك يا رسول الله ؟ قال : " سواي " . قلت : أنت سمعته ؟ قال : نعم . فلما قام قلت : من هذا ؟ قالوا : ابن أبي الجدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم رواه الإمام أحمد ، عن غندر عن شعبة ، وعن عفان عن وهيب ، كلاهما عن خالد الحذاء ، به ، نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورواه أبو عمرو بن السماك ، عن يحيى بن جعفر ، عن شبابة ، عن حريز بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، وحبيب بن عبيد الرحبي ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل [ ص: 237 ] أحد الحيين ربيعة ومضر " . قيل : يا رسول الله ، وما ربيعة ومضر . قال : " إنما أقول ما أقول " . قال : فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان ، رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن يوسف الفريابي : حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي ، قال : جلست إلى نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيهم عبد الله بن أبي الجدعاء ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم " . قالوا : سواك يا رسول الله ؟ قال : " سواي " . قال الفريابي : يقال : إنه عثمان بن عفان ، رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رواه البيهقي ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم ، من طرق متعددة ، عن خالد الحذاء ، به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الترمذي : حسن صحيح ، وليس لابن أبي الجدعاء حديث سواه . وله من حديث أبي معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عبد الله بن قيس [ ص: 238 ] الأسدي ، عن الحارث بن أقيش ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من مضر ، وإن من أمتي من سيعظم للنار حتى يكون أحد زواياها " . وكذا رواه أحمد وابن ماجه ، من غير وجه عن داود بن أبي هند ، وفي لفظ لأحمد : " إن من أمتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر ، وإن من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون ركنا من أركانها " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي من حديث أبي بكر بن عياض عن هشام ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة أكثر من ربيعة ومضر " . قال هشام : أخبرني حوشب ، عن الحسن أنه أويس القرني . قال أبو بكر بن عياش : قلت لرجل من قومه : أويس بأي شيء بلغ هذا ؟ قال : فضل الله يؤتيه من يشاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا سعيد بن زيد ، سمعت أبا سليمان العصري ، حدثني عقبة بن صهبان ، سمعت أبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 239 ] قال : " يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار ، فينجي الله برحمته من يشاء ، ثم يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء أن يشفعوا ، فيشفعون ويخرجون ، ويشفعون ويخرجون ، ويشفعون ويخرجون - زاد عفان مرة ، فقال : ويشفعون ويخرجون - من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا الخضر بن أبان ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر - يعني ابن سليمان - حدثنا أبو ظلال ، حدثنا أنس بن مالك ، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سلك رجلان مفازة ، أحدهما عابد ، والآخر به رهق ، ومع الذي به رهق إداوة ، فيها ماء ، وليس مع العابد ماء ، فعطش العابد ، فقال : أي فلان ، اسقني فهو ذا أموت . فقال : إنما معي إداوة ، ونحن في مفازة ، فإن سقيتك هلكت . فسلكا ، ثم إن العابد اشتد به العطش ، فقال : أي فلان ، اسقني فهو ذا أموت . فقال : إنما معي إداوة ، ونحن في مفازة ، فإن [ ص: 240 ] سقيتك هلكت . فسلكا ، ثم إن العابد اشتد به العطش ، فقال : أي فلان ، اسقني ; فهو ذا أموت . فقال : إنما معي إداوة ، ونحن في مفازة ، فإن سقيتك هلكت . فسلكا ، ثم إن العابد سقط ، فقال : أي فلان ، اسقني ؟ فهو ذا أموت . قال الذي به رهق : والله إن هذا العبد الصالح يموت ضياعا ، إن تركته ولم أسقه لا تبلني عند الله بالة أبدا . فرش عليه من الماء وسقاه ، ثم سلكا المفازة ، فقطعاها ، قال : فيوقفان للحساب يوم القيامة ، فيؤمر بالعابد إلى الجنة ، ويؤمر بالذي به رهق إلى النار . قال : فيعرف الذي به رهق العابد ، ولا يعرف العابد الذي به رهق ، فيناديه : أي فلان ، أنا الذي آثرتك على نفسي يوم المفازة ، وقد أمر بي إلى النار ، فاشفع لي إلى ربك . فيقول العابد : أي رب ، إنه قد آثرني على نفسه ، أي رب هبه لي اليوم . فيهبه له ، فيأخذ بيده ، فينطلق به إلى الجنة " . زاد فيه : " فيقول : يا فلان ، ما أشد ما غيرتك نعمة ربي ، عز وجل " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البيهقي : وهذا الإسناد ، وإن كان غير قوي فله شاهد من حديث أنس بن مالك ، حدثنا أبو سعد الزاهد إملاء ، حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسن بن الحسين بن منصور ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا علي بن أبي سارة ، عن ثابت البناني ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على النار ، فيناديه رجل من أهل النار ، فيقول : يا فلان ، هل تعرفني ؟ فيقول : لا ، والله ما أعرفك ، من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في الدنيا ، [ ص: 241 ] فاستسقيتني شربة من ماء ، فسقيتك . قال : قد عرفتك . قال : فاشفع لي بها عند ربك . قال : فيسأل الله ، عز وجل ، فيقول يا رب : إني أشرفت على النار ، فناداني رجل من أهلها ، فقال : هل تعرفني ؟ قلت : لا والله ، ما أعرفك ، من أنت ؟ قال : أنا الذي مررت بي في الدنيا ، فاستسقيتني شربة من ماء ، فسقيتك فاشفع لي بها عند ربك . فشفعني فيه ، فيشفعه الله ، فيأمر الله به فيخرج من النار " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أنبأنا أبو طالب طاهر الفقيه ، أنبأنا أبو عبد الله الصفار الأصبهاني حدثنا أبو قبيصة محمد بن عبد الرحمن بن عمارة بن القعقاع الضبي الأصبهاني البغدادي ، حدثنا أحمد بن عمران الأخنسي ، سمعت أبا بكر بن عياش جار ابن هارون يحدث ، عن سليمان التيمي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله أهل الجنة صفوفا ، وأهل النار صفوفا ، فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى رجل من صفوف أهل الجنة ، فيقول : يا فلان ، ما تذكر يوم اصطنعت إليك في الدنيا معروفا ؟ فيقول : يا رب ، إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفا . فيقال : خذ بيده ، وأدخله الجنة " . قال أنس : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله . قال : وكذا رواه السمعاني ، عن أحمد بن عمران . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية