الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 202 ] وكتب عبد الله ابن تيمية لأخيه زين الدين : - بسم الله الرحمن الرحيم من أخيه " عبد الله ابن تيمية " إلى الشيخ الإمام العالم الفاضل الصدر الكبير " زين الدين " زينه الله تعالى بحلية أوليائه وأكرمه في الدنيا والآخرة بكرامة أصفيائه وجعل له البشرى بالنصر الأكبر على أعدائه وأوزعه شكر النعماء ; خصوصا أفضل نعمائه : بما من الله به سبحانه من النصر العزيز للإسلام وللسنة وأهلها على حزب الشيطان وأوليائه .

                أما بعد : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل ، وأصلي على نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام . وأعرفه بما من الله سبحانه علينا وعلى المسلمين أجمعين بالنصر الأكبر والفتح المبين .

                وهو وإن كانت العقول تعجز عن دركه على التفضيل والألسن عن وصفه عن التكميل .

                لكن نذكر منه ما يسر الله سبحانه ملخصا خاليا عن التطويل .

                [ ص: 203 ] وهو أنه - لما كان يوم الاثنين الثامن من رجب - جمع نائب السلطان القضاة الأربعة ونوابهم والمفتين والمشايخ : نجم الدين ، وشمس الدين وتقي الدين ، وجمال الدين ، وجلال الدين : نائب نجم الدين ، وشمس الدين بن العز : نائب شمس الدين ، وعز الدين : نائب تقي الدين ، ونجم الدين : نائب جمال الدين ، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، والشيخ كمال الدين بن الشرشي ، وابن الوكيل من الشافعية ، والشيخ برهان الدين بن عبد الحق من الحنفية ، والشيخ شمس الدين الحريري من المالكية ، والشيخ شهاب الدين المجد من الشافعية ، والشيخ محمد بن قوام ، والشيخ محمد بن إبراهيم الأرموي .

                ثم سأل نائب السلطان عن الاعتقاد .

                فقال : ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني ; بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة .

                يؤخذ من كتاب الله تعالى ، ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة وما ثبت عن سلف الأمة .

                فقال الأمير نريد أن تكتب لنا صورة الاعتقاد فقال الشيخ : إذا قلت الساعة شيئا من حفظي : قد يقول الكذابون قد كتم بعضه أو داهن .

                بل أنا أحضر ما كتبته قبل هذا المجلس بسنين متعددة قبل مجيء التتار .

                فأحضرت " الواسطية " وسبب تسميتها بذلك : أن الذي طلبها من الشيخ رجل من قضاة واسط - من أصحاب الشافعي - قدم حاجا من نحو عشر سنين وكان فيه صلاح كبير وديانة كبيرة فالتمس من الشيخ أن يكتب له عقيدة فقال له [ ص: 204 ] الشيخ : الناس قد كتبوا في هذا الباب شيئا كثيرا فخذ بعض عقائد أهل السنة فقال : أحب أن تكتب لي أنت .

                فكتب له - وهو قاعد في مجلسه بعد العصر هذه " العقيدة " .

                ذكر الشيخ للأمير معنى هذا الكلام ثم قرئت على الحاضرين من أولها إلى آخرها كلمة كلمة وبحث في مواضع منها ، وفيهم من في قلبه من الشيخ ما لا يعلمه إلا الله وكان ظنهم أنهم إذا تكلموا معه في هذا الكتاب أظهروا أنه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة .

                وأوردوا ثلاثة أسئلة - في ثلاث مواضع - وهي " تسميتها باعتقاد أهل الفرقة الناجية " وقول : " استوى حقيقة " وقول : " فوق السموات " فقال الشيخ للكاتب الذي أقعده نائب السلطان وهو الشيخ كمال الدين بن الزملكاني : اكتب جوابها - وكان المجلس قد طال من الضحى إلى قريب العصر - فأشاروا بتأخير ذلك إلى مجلس ثان - وهو يوم الجمعة ثاني عشر رجب - فاجتمعوا هم وحضر معهم الصفي الهندي وحضرت أنا المجلس الثاني ; وما علمت بالمجلس الأول حين حضروا - وقد كانوا بحثوا في تلك الأيام بالفصوص وطالعوه - واتفقوا على أنهم لا يبقوا ممكنا .

                فلما حضرت بعد صلاة الجمعة واستقر المجلس : أثنى الناس على الصفي الهندي وقال جماعة منهم هو شيخ الجماعة وكبيرهم في هذا ; وعليه اشتغل الناس في هذا الفن واتفقوا على أنه يتكلم مع الشيخ وحده فإذا فرغ تكلم واحد بعد واحد .

                [ ص: 205 ] فخطب الشيخ فحمد الله وأثنى عليه بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه ثم قال : إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف وربنا واحد ، ورسولنا واحد ، وكتابنا واحد وديننا واحد ; وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف ; ولا يحل فيها الافتراق لأن الله تعالى يقول : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ويقول : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } .

                وهذا الباب قد تنازع الناس فيه ; ويقول هذا : أنا حنبلي ويقول هذا : أنا أشعري وقد أحضرت كتب الأشعري وكتب أكابر أصحابه : مثل كتب أبي بكر بن الباقلاني وأحضرت أيضا من نقل مذاهب السلف : من المالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث وشيوخ الصوفية وأنهم كلهم متفقون على اعتقاد واحد .

                وكذلك أحضر نقل شيوخ أصحاب أبي حنيفة : مثل محمد بن الحسن والطحاوي وما ذكروه من الصفات وغيرها في أصول الدين وقرأ فصلا مما ذكره الحافظ ابن عساكر في كتابه " الإبانة " وأنه يقول بقول الإمام أحمد .

                وأحضر " كتاب التمهيد " للقاضي أبي بكر بن الباقلاني .

                وأحضر " النقول " عن مالك وأكابر أصحابه : مثل ابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وغيرهما من كبار أصحاب مالك بتصريحهم أن الله مستو بذاته على العرش .

                وقال أما الذي أذكره فهو مذهب السلف وأحضر ألفاظهم وألفاظ من [ ص: 206 ] نقل مذاهبهم من الطوائف الأربعة وأهل الحديث والمتكلمين والصوفية وأذكر موافقة ذلك من الكتاب والسنة وأنه ليس في ذلك ما ينفيه العقل وإن كان الله تعالى يجمع قلوب الجماعة على ذلك فالحمد لله رب العالمين ; وإن خالف مخالف لذلك كان في كلام الآخر [ ما ] أقوله وأكشف الأسرار وأهتك الأستار وأبين ما يحتاج إليه بيانه وأجتمع بالسلطان وأقول له كلاما آخر .

                وكان يوما عظيما مشهودا بين فيه للحاضرين من البحث والنقل أمر عظيم وبحث عن أشياء خارجة عن " العقيدة الواسطية " لما أحضر لهم جوابه : في مسألة القرآن ومسألة الاستواء - لما سئل عنها قديما من نحو اثنتي عشرة سنة - وقرأ عليهم من ذلك الجواب وسألوه عن ألفاظ في المسألة " الحموية " وأوردوا عليه جميع ما في أنفسهم من الأجوبة وقالوا هذا سؤالنا وما بقي في أنفسنا شيء فلما أجاب الشيخ عن أسئلتهم وافقوه وانفصل المجلس على ذلك وكان قال لهم كل من خالف شيئا مما قلته فليكتب بخطه خلافه ولينقل فيما خالف في ذلك عن السلف ; أو يكتب كل شخص عقيدة وتعرض هذه العقائد على ولاة الأمور ويعرف أيها الموافق للكتاب والسنة .

                وقال أيضا من جاء بحرف واحد عن السلف بخلاف ما ذكرت فأنا أصير إليه وأنا أحضر نقل جميع الطوائف أنهم ذكروا مذهب السلف كما وضعته وأنا موافق السلف [ ص: 207 ] ومناظر على ذلك ; وجميع أئمة الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والصوفية موافقون ما أقوله .

                وسألوه عن الظاهر هل هو موافق أم لا ؟ فقال هذا ليس في " العقيدة " وأنا أتبرع بالجواب عن أكثر من حكى مذهب السلف - كالخطابي وأبي بكر الخطيب والبغوي وأبي بكر وأبي القاسم التميمي وأبي الحسن الأشعري وابن الباقلاني وأبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر والقاضي أبي يعلى والسيف الآمدي وغيرهم في نفي الكيفية والتشبيه عنها وأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات : يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله ; فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لإثبات كيفية ; فكذلك إثبات الصفات : إثبات وجود لا إثبات كيفية .

                وقد نقل طائفة أن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد .

                قال : والجمع بين النقلين أن الظاهر لفظ مشترك ; فالظاهر الذي لا يليق إلا بالمخلوق غير مراد وأما الظاهر اللائق بجلال الله تعالى وعظمته فهو مراد : أنه هو المراد في أسماء الله تعالى ، وصفاته مثل الحي والعليم والقدير والسميع والبصير ; وجرت بحوث دقيقة لا يفهمها إلا قليل من الناس .

                وبين أن الله تعالى فوق عرشه على الوجه الذي يليق بجلاله ; ولا أقول [ ص: 208 ] فوقه كالمخلوق على المخلوق كما تقوله المشبهة ولا يقال إنه لا فوق السموات ولا على العرش رب كما تقوله المعطلة الجهمية بل يقال إنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه .

                وتكلم على لفظ الجهة ; وأنه معنى مشترك وعلى لفظ الحقيقة .

                وسئل عن مسألة القرآن والصوت فأجاب بالتفصيل وكان أجاب به قديما - فقال : من قال إن صوت العبد بالقرآن ومداد المصحف قديم فهو مخطئ ضال ولم يقل بهذا أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد ولا غيرهم .

                وما نقل عنهم أنهم يقولون ليس القرآن إلا الصوت المسموع من القارئ والمداد الذي في المصحف وهو مع ذلك قديم فهذا كذب مفترى .

                ما قاله أحمد وأحضر نصوص الإمام أحمد وأصحابه وأصحاب مالك والشافعي والأشعري وغيرهم : أن من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع ، فكيف بمن يقول صوتي به غير مخلوق أو يقول صوتي به قديم وحرر الكلام فيها وإن إطلاق القول بنفي الحرف بدعة : لم يتكلم به الإمام أحمد ولا غيره من الأئمة المتبوعين .

                بل مذهب السلف أن القرآن كلام الله : حروفه ومعانيه 65 ; والكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا ; لا إلى من قاله مبلغا مؤديا وأن الله تكلم بصوت وذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي في الصحيحين .

                فأخذ نائب [ ص: 209 ] المالكي يقول : أنت تقول : إن الله ينادي بصوت فقال له الشيخ : هكذا قال نبيك إن كنت مؤمنا به ، وهكذا قال محمد بن عبد الله إن كان رسولا عندك .

                وجعل نائب السلطان كلما ذكر حديثا وعزاه إلى الصحيحين يقول لهم : هكذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم يقولون نعم .

                فيقول فمن قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء يقال له .

                وقال له كل شيء قلته من عندك قلته ؟ فقال بل أنقله جميعا عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وأبين أن طوائف الإسلام تنقله عن السلف كما نقلته وأن أئمة الإسلام عليه وأنا أناظر عليه وأعلم كل من يخالفني بمذهبه .

                وانزعج الشيخ انزعاجا عظيما على نائب المالكي والصفي الهندي وأسكتهما سكوتا لم يتكلما بعده بما يذكر .

                وجزئيات الأمور لا يتسع لها هذا الورق ، وبعد المجلس حمل بعض الشافعية النقل من تفسير القرطبي بأن السلف لم ينكر أحد منهم أن الله تعالى استوى على العرش حقيقة وأنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون إلا بما أخبرت به رسله ، وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات وإنما جهلوا كيفية الاستواء وأنه لا تعلم حقيقته ; كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فقال المالكي ما كنا نعرف هذا .

                [ ص: 210 ] وبعد المجلس حصل من ابن الوكيل وغيره : من الكذب والاختلاق والتناقض بما عليه [ الحال ] ما لا يوصف .

                فجميع ما يرد إليك مما يناقض ما ذكرت : من الأكاذيب ; والاختلاقات فتعلم ذلك .

                ولم ندر إلى الآن كيف وقع الأمر في مصر ; إلا ما في كتاب السلطان أنه بلغنا أن الشيخ فلانا كتب عقيدة يدعو إليها وأن بعض الناس أنكرها فليعقد له مجلس لذلك ولتطالع ما يقع وتكشف أنت ذلك كشفا شافيا وتعرفنا به .

                والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى الشيخ الإمام الكبير العالم الفاضل قرة العين عز الدين أفضل السلام وكذلك كل فرد من الأهل والأصحاب والمعارف والسلام .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية