الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها : ما يعرف بالإجماع، كحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فإنه منسوخ عرف نسخه بانعقاد الإجماع على ترك العمل به ، والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ، ولكن يدل على وجود ناسخ غيره، والله أعلم بالصواب .

[ ص: 834 ]

التالي السابق


[ ص: 834 ] 136 - قوله: (ومنها : ما يعرف بالإجماع، كحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فإنه منسوخ، عرف نسخه بانعقاد الإجماع على ترك العمل به ) انتهى.

وفيه أمور:

أحدها: أنه ورد في الحديث نسخه، فلا حاجة للاستدلال عليه بالإجماع.

أما المنسوخ فهو ما رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث معاوية [ ص: 835 ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" ورواه أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو وشرحبيل بن أوس، وصحابي آخر لم يسم. ورواه الطبراني من حديث جرير بن عبد الله، والشريد بن أوس.

وأما الناسخ فهو ما رواه البزار في مسنده من رواية محمد بن إسحاق، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" قال: فأتي بالنعيمان قد شرب الرابعة فجلدوه ولم يقتله، فكان ذلك ناسخا للقتل.

قال البزار: "لا نعلم أحدا حدث به إلا ابن إسحاق" وذكره الترمذي تعليقا من حديث ابن إسحاق، ثم قال: "وكذلك روي عن الزهري، عن [ ص: 836 ] قبيصة بن ذؤيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" قال: "فرفع القتل وكانت رخصة" انتهى.

وقبيصة ذكره ابن عبد البر في الصحابة، قال: "ولد في أول سنة من الهجرة، وقيل: ولد عام الفتح" قال: "ويقال: إنه أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم ودعا له" انتهى. والصحيح أنه ولد عام الفتح.

الثاني: أن دعوى الإجماع - في هذا - ليس بجيد، وإن كان الترمذي قد سبق إلى ذلك، فقال في (العلل) التي في آخر الجامع: "جميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين" فذكر منهما حديث: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".

قال النووي في شرح مسلم: "وهو كما قاله؛ فهو حديث منسوخ، دل الإجماع على نسخه".

وفيما قالوه نظر؛ فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي أن أقتله" وحكي أيضا عن الحسن البصري، وهو قول ابن حزم، فلا إجماع [ ص: 837 ] إذا. وإن قلنا: إن خلاف أهل الظاهر لا يقدح في الإجماع على أحد القولين فقد قال به بعض الصحابة والتابعين. والله أعلم.

الثالث: إذا ظهر أن الخلاف في قتل شارب الخمر في الرابعة موجود فينبغي أن نمثل بمثال آخر، أجمعوا على ترك العمل به، فنقول:

روى أبو عيسى الترمذي من حديث جابر قال: "كنا إذا حججنا [ ص: 838 ] مع النبي صلى الله عليه وسلم فلبى نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان" قال الترمذي بعد تخريجه: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".

قال: "وقد أجمع أهل العلم أن المرأة لا يلبي عنها غيرها، هي تلبي عن نفسها" فهذا حديث قد أجمعوا على ترك العمل به، وهو في كتاب الترمذي، فكان ينبغي له أن يستثنيه في العلل حين استثنى الحديثين المتقدمين.

والجواب عن الترمذي من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن هذا الحديث قد قال ببعضه بعض أهل العلم، وهو الرمي عن الصبيان، فلم يجمع على ترك العمل بجميع الحديث.

[ ص: 839 ] والوجه الثاني أن هذا الحديث قد اختلف في لفظه على ابن نمير، فرواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل الواسطي عنه هكذا، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن نمير بلفظ: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم" هكذا رواه ابن أبي شيبة في (المصنف) ومن طريقه رواه ابن ماجه في سننه، قال أبو الحسن بن القطان: "وهذا أولى بالصواب وأشبه به" انتهى.

[ ص: 840 ] وإذا ترجح أن لفظ رواية الترمذي غلط فلك أن تقول: نحن لا نحكم على الحديث بالنسخ عند ترك العمل به إجماعا، إلا إذا علمنا صحته، وقد أشار إلى ذلك الفقيه أبو بكر الصيرفي في كتاب (الدلائل) عند الكلام على تعارض حديثين، فقال: "فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فأحدهما منسوخ أو غلط والآخر ثابت" فيمكن حمل كلام الصيرفي على ما إذا لم يثبت الحديث الذي أجمع على ترك العمل به؛ فإن الحكم عليه بالنسخ فرع عن ثبوته، ويمكن حمل كلامه على ما إذا كان صحيحا أيضا، وهو خبر آحاد، وأجمعوا على ترك العمل به، ولا يتعين المصير إلى النسخ؛ لاحتمال وجود الغلط من راويه، فهو كما قال: "منسوخ" أو "غلط" والله أعلم.

الوجه الثالث: أن الحافظ محب الدين الطبري في كتاب (القرى) حمل لفظ رواية الترمذي في هذا الحديث على أن المراد رفع الصوت بالتلبية لا مطلق التلبية، فإن فيه استعمال المجاز، فجعله عن النساء للاجتزاء بجهر الرجال بالتلبية عن استحبابه في حق النساء، فكأن الرجال قاموا بذلك عن النساء، وفيه تكلف وبعد. والله أعلم.




الخدمات العلمية