الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 676 ] ذكر حال دبيس بن صدقة وما كان منه

قد ذكرنا سنة أربع عشرة وخمسمائة حال دبيس بن صدقة ، وصلحه على يد يرنقش الزكوي ، ومقامه بالحلة ، وعود يرنقش إلى السلطان ومعه منصور بن صدقة ، أخو دبيس ، وولده ، رهينة ، فلما علم الخليفة بذلك لم يرض به ، وراسل السلطان محمودا في إبعاد دبيس عن العراق إلى بعض النواحي .

وتردد الخطاب في ذلك ، وعزم السلطان على المسير إلى همذان ، فأعاد الخليفة الشكوى من دبيس ، وذكر أنه يطالب الناس بحقوقه ، منها قتل أبيه ، وأشار أن يحضر السلطان آقسنقر البرسقي من الموصل ، ويوليه شحنكيةبغداذ والعراق ، ويجعله في وجه دبيس ، ففعل السلطان ذلك ، وأحضر البرسقي ، فلما وصل إليه زوجه والدة الملك مسعود ، وجعله شحنة بغداذ وأمره بقتال دبيس إن تعرض البلاد .

وسار السلطان عن بغداذ في صفر من هذه السنة ، وكان مقامه ببغداذ سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما ، فلما فارق بغداذ والعراق تظاهر دبيس بأمور تأثر بها المسترشد بالله ، وتقدم إلى البرسقي بالمسير إليه ، وإزعاجه عن الحلة ، فأرسل البرسقي إلى الموصل ، وأحضر عساكره ، وسار إلى الحلة ، وأقبل دبيس نحوه ، فالتقوا عند نهر بشير ، شرقي الفرات ، واقتتلوا ، فانهزم عسكر البرسقي .

وكان سبب الهزيمة أنه رأى في ميسرته خللا ، وبها الأمراء البكجية ، فأمر بإلقاء خيمته ، وأن تنصب عند الميسرة ، ليقوي قلوب من بها ، فلما رأوا الخيمة وقد سقطت ظنوها عن هزيمة ، فانهزموا ، وتبعهم الناس والبرسقي .

وقيل : بل أعطي رقعة فيها : إن جماعة من الأمراء ، منهم إسماعيل البكجي ، يريدون الفتك به ، فانهزم ، وتبعه العسكر ، ودخل بغداذ ثاني ربيع الآخر وكان في جملة العسكر نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الجبر ، وكان ناظرا بالبطيحة لريحان محكويه ، خادم السلطان ، لأنها كانت من جملة إقطاعه ، وحضر أيضا المظفر بن حماد بن أبي الجبر ، وبينهما عداوة شديدة ، فالتقيا عند الانهزام بساباط نهر ملك ، فقتله المظفر ومضى إلى واسط ، وسار منها إلى البطيحة ، وتغلب عليها وكاتب دبيسا وأطاعه .

[ ص: 677 ] وأما دبيس فإنه لم يعرض لنهر ملك ، ولا غيره ، وأرسل إلى الخليفة أنه على الطاعة ، ولولا ذلك لأخذ البرسقي وجميع من معه ، وسأل أن يخرج الناظر إلى القرى التي لخاص الخليفة لقبض دخلها .

وكانت الوقعة في حزيران ، وحمى البلد ، فأحمد الخليفة فعله ، وترددت الرسل بينهما ، فاستقرت القاعدة أن يقبض المسترشد بالله على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة ليعود إلى الطاعة ، فقبض على الوزير ، ونهبت داره ودور أصحابه والمنتمين إليه ، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضا إلى الموصل .

ولما سمع السلطان خبر الواقعة قبض على منصور بن صدقة ، أخي دبيس ، وولده ، ورفعهما إلى قلعة برحين وهي تجاور كرج .

ثم إن دبيسا أمر جماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط ، فساروا إليها ، فمنعهم أتراك واسط ، فجهز دبيس إليهم عسكرا مقدمهم مهلهل ابن أبي العسكر ، وأرسل إلى المظفر بن الجبر بالبطيحة ليتفق مع مهلهل ويساعده على قتال الواسطيين ، فاتفقا على أن تكون الواقعة تاسع رجب ، وأرسل الواسطيون إلى البرسقي يطلبون منه المدد ، فأمدهم بجيش من عنده ، وعجل مهلهل في عسكر دبيس ، ولم ينتظر المظفر ظنا منه أنه بمفرده ينال منهم ما أراد ، وينفرد بالفتح ، فالتقى هو والواسطيون ، ثامن رجب ، فانهزم مهلهل وعسكره ، وظفر الواسطيون ، وأخذ مهلهل أسيرا وجماعة من أعيان العسكر ، وقتل ما يزيد على ألف قتيل ، ولم يقتل من الواسطيين غير رجل واحد .

وأما المظفر بن أبي الجبر فإنه أصعد من البطيحة ونهب وأفسد ، وجرى من أصحابه القبيح ، فلما قارب واسطا سمع بالهزيمة ، فعاد منحدرا .

وكان في جملة ما أخذ العسكر الواسطي من مهلهل تذكرة بخط دبيس يأمره فيها بقبض المظفر بن أبي الجبر ومطالبته بأموال كثيرة أخذها من البطيحة ، فأرسلوا الخط إلى المظفر ، وقالوا : هذا خط الذي تختاره ، فلما جرى على أصحاب دبيس من الواسطيين ما ذكرناه شمر عن ساعده في الشر ، وبلغه أن السلطان كحل أخاه ، فجز شعره ، ولبس السواد ، ونهب البلاد ، وأخذ كل ما للخليفة بنهر الملك ، فأجلى الناس إلى بغداذ .

[ ص: 678 ] وسار عسكر واسط إلى النعمانية ، فأجلوا عنها عسكر دبيس واستولوا عليها ، وجرى بينهم هناك وقعة كان الظفر فيها للواسطيين ، وتقدم الخليفة إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس ، فبرز في رمضان ، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية