الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني .

في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة .

اعلم أنه يجب على مؤدي الزكاة خمسة أمور .

الأول : النية وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض وليس عليه تعيين الأموال .

فإن كان له مال غائب ، فقال هذا عن مالي الغائب إن كان سالما وإلا فهو نافلة جاز لأنه إن لم يصرح به ، فكذلك يكون عند إطلاقه .

التالي السابق


قال رحمه الله: (الفصل الثاني في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة) أما الأداء فهو واجب على الفور بعد التمكن.

وروى إمام الحرمين وغيره عن أبي حنيفة أنها واجبة على التراخي، ونقل صاحب الشامل وغيره اختلافا لأصحابه فيه، ففي الكرخي أنها على الفور، وعن أبي بكر الرازي أنها على التراخي، ودليل من قال على الفور: أن الأمر بإيتائها وارد، وحاجة المستحقين ناجزة؛ فيتحقق الوجوب في الحال، ثم الأداء يفتقر إلى أمور هي بمنزلة الشروط، فمنها ما هي ظاهرة ومنها ما هي باطنة، فقدم ذكر شروطه الظاهرة على الباطنة؛ نظرا إلى تقدم الظاهر المحسوس على الباطن المعقول، فالظاهر عنوان الباطن، وما لم يدرك ظاهر الشيء لا يصل إلى معرفة باطنه، فقال: (بيان الشروط الظاهرة) لأداء الزكاة، (اعلم أنه يجب على مؤدي الزكاة) بعد تمكنه منها (مراعاة خمسة أمور) ولم يذكر في هذه الأمور الخمسة الفعل، مع أن الأداء مفتقر إليه كافتقاره إلى الأمور الخمسة، ونحن نذكره فنقول: الفعل على ثلاثة أضرب: أحدها أن يفرق المالك بنفسه، وهو جائز في الأموال الباطنة، وهي الذهب والفضة وعروض التجارة والركاز وزكاة الفطر، وحكى صاحب البيان وجها في زكاة الفطر، أنها من الأموال الظاهرة، ونقل صاحب الحاوي عن الأصحاب أنها باطنة، وهو ظاهر نص الشافعي، وهو المذهب. وأما الأموال الظاهرة وهي المواشي والمعشرات والمعادن، ففي جواز تفريقها بنفسه قولان: أظهرهما وهو الجديد: يجوز، والقديم: لا يجوز، بل يجب صرفها إلى الإمام إن كان عادلا وإن كان جائرا فوجهان؛ أصحهما: يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله، وعلى هذا القول لو فرق بنفسه لم يجب، وعليه أن يؤخذ ما دام يرجو مجيء الساعي، فإذا أيس فرق بنفسه. الضرب الثاني: أن يصرف إلى الإمام، وهو جائر. الثالث: أن يوكل في الصرف إلى الإمام أو التفرقة على الأصناف؛ حيث يجوز التفرقة بنفسه، وهو جائر. وأفضل هذه الأضرب التفرقة بنفسه، أفضل من التوكيل بلا خلاف؛ لأن الوكيل قد يخون فلا يسقط الفرض عن الموكل، وأما الأفضل من الضربين الأخيرين، فإن كانت الأموال باطنة فوجهان؛ أصحهما عند جمهور الأصحاب: الدفع إلى الإمام أفضل، لأنه يتيقن سقوط الفرض بخلاف تفرقته بنفسه فإنه قد يدفع إلى غير مستحق، والثاني بنفسه أفضل؛ لأنه أوثق، وليباشر العبادة وليخص الأقارب والجيران والأحق، وإن كانت الأموال ظاهرة، فالصرف إلى الإمام أفضل قطعا، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور وطرد المصنف في الوسيط فيه الخلاف، ثم حيث قلنا: الصرف إلى الإمام أولى إن كان عادلا، فإن كان جائرا فوجهان؛ أصحهما: التفريق بنفسه أفضل، وفي المذهب وجه: أنه لا يجوز الصرف إلى الجائر، وهذا غريب ضعيف مردود .

كذا في الروضة .

ثم شرع المصنف في ذكر الأمور الخمسة، فقال: (الأول: النية) وهي واجبة قطعا، وهل تتعين بالقلب أن يقوم النطق باللسان مقامها؟ فيه طريقان: أحدهما: تتعين، وأشهرهما على وجهين، وقيل: على قولين، أصحهما: تتعين، والثاني: يتخير بين القلب والاقتصار على اللسان. ثم أشار المصنف إلى صفة النية مع اعتبار أصح القولين الذي هو التعين بالقلب، فقال: (وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض) أي: هذا فرض زكاة مالي، أو فرض صدقة مالي، أو زكاة مالي المفروضة أو الصدقة المفروضة، ولا يكفي التعرض لغرض المال؛ لأن ذلك قد يكون كفارة ونذرا، ولا يكفي مطلق الصدقة على الأصح، ولو نوى الزكاة دون الفرضية أجزأه على المذهب، وقيل: وجهان، (وليس عليه تعيين الأموال) التي يزكيها، فلو ملك مائتي درهم حاضرة ومائتين غائبة فأخرج عشرة بلا تعيين جاز، وكذا لو ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة فأخرج شاتين بلا تعيين أجزأه، ولو أخرج خمسة دراهم مطلقا ثم بان تلف المالين أو تلف أحدهما بعد الإخراج فله [ ص: 87 ] أن يجعل المخرج عن الباقي، فلو عين ما لا ينصرف إلى غيره، كما لو أخرج الخمسة عن الغائب فبان تالفا لم يكن له صرفه إلى الحاضر، (فإن كان مال غائب، فقال) عند إخراج زكاته: (هذا عن مالي الغائب إن كان سالما) باقيا فبان تالفا لم يكن صرفه إلى الحاضر على الأصح، ولو قال: هذه عن الغائب، فإن كان تالفا فهي صدقته، أو قال: إن كان الغائب باقيا فهذه زكاته، (وإلا فهو نافلة) أو صدقة (جاز) ؛ لأن هذه صفة إخراج زكاة الغائب؛ (لأنه لم يصرح به، فكذلك يكون عند إطلاقه) ، فلو اقتصر على زكاة الغائب حتى لو بان تالفا لا يجوز له الاسترداد إلا إذا صرح، فقال: هذه عن مالي الغائب، فإن بان تالفا استرددتها، وليست هذه الصورة كما لو أخرج الخمسة، وقال: إن كان مورثي مات فورثت ماله فهي زكاته، فبان أنه ورثه لا يحسب المخرج زكاة؛ لأن الأصل عدم الإرث، وهنا الأصل بقاء المال والتردد اعتضد بالأصل، أما إذا قال: هذه زكاة الغائب، فإن كان تالفا فعن الحاضر؛ فالمذهب والذي قطع به الجمهور: إن كان الغائب باقيا وقع عنه، والأوقع عن الحاضر، ولا يضر التردد؛ فإن التعيين ليس بشرط حتى لو قال: هذه عن الحاضر أو الغائب أجزأه، وعليه خمسة للآخر، وعن صاحب التقريب: تردد في إجزائه عن الحاضر، ولو قال: هذه عن الغائب إن كان باقيا وإلا فعن الحاضر، أو هي صدقة وكان الغائب تالفا لم يقع عن الحاضر، كما قال الشافعي رحمه الله، ولو قال: إن كان مالي الغائب سالما فهذه زكاته أو نافلة وكان سالما لم يجزئ؛ لأنه لم يخلص القصد عن الغرض، وقولنا في هذه المسائل: مال غائب، يتصور إذا كان غائبا في بلد آخر، وجوزنا فعل الصدقة أو معه في البلد، وهو غائب عن مجلسه .



(فصل)

وقال أصحابنا: شرط صحة أدائها نية مقارنة للأداء، أو لعزل مقدار الواجب، أو تصدق بجميع النصاب؛ لأنها عبادة فلا تصح إلا بالنية، والأصل فيه الاقتران بالأداء كسائر العبادات، إلا أن الدفع يتفرق فيخرج باستحضار النية عند كل دفع، فاكتفى بوجودها حالة العزل دفعا للحرج كتقديم النية في الصوم، وهذا لأن العزل فعل منه، فجازت النية عنده، بخلاف ما إذا نوى أن يؤدي الزكاة ولم يعزل شيئا، وجعل يتصدق شيئا فشيئا إلى آخر السنة، ولو تحضره النية لم يجزه عن الزكاة؛ لأن نيته لم تقترن بفعل ما فلا تعتبر، وقولنا: أو تصدق بكله؛ لأنه إذا تصدق بجميع ماله فقد دخل الجزء الواجب فيه؛ فلا حاجة إلى التعيين؛ استحسانا لكون الواجب جزءا من النصاب، ولا فرق بين أن ينوي النفل أو لم تحضره النية، بخلاف صوم رمضان؛ حيث لا يكون الإمساك مجزئا عنه إلا بنية القربة؛ فالفرق أن دفع المال بنفسه قربة كيفما كان، والإمساك لا يكون قربة إلا بنية، فافترقا. وهذا لأن الركن في الموضعين إيقاعه قربة، وقد حصل بنفس الدفع إلى الفقير دون الإمساك، ولو دفع جميع النصاب إلى الفقير ينوي به النذر أو عن واجب آخر يقع عما نوى، ويضمن قدر الواجب كالنذر المعين في الصوم إذا نوى فيه التطوع يقع عن النذر، وإن صام فيه عن واجب آخر يقع ما نوى ويقضي النذر، ولو وهب بعض النصاب من الفقير سقط عنه زكاة المؤدي عند محمد؛ اعتبارا للجزء بالكل؛ إذ الواجب شائع في الكل فصار كالهلاك، وعند أبي يوسف لا يسقط؛ لأن البعض غير متعين لكون الباقي محلا للواجب بخلاف الهلاك؛ لأنه لا صنع له فيه، فتعذر الدفع بصنعه فلا يعذر، وعلى هذا لو كان له دين على فقير فأبرأه عنه سقطت زكاته عنه، نوى به عن الزكاة أو لم ينو؛ لأنه كالهلاك، ولو أبرأه عن البعض سقط الزكاة عن ذلك البعض لما قلنا، وزكاة الباقي لا تسقط عنه، ولو نوى به الأداء عن الباقي؛ لأن الساقط ليس بمال والباقي يجوز أن يكون مالا، فكان الباقي خيرا منه، فلا يجوز الساقط عنه، وكذا لا يجوز أداء الدين عن العين بخلاف العكس، ولو كان الدين على غني فذهب منه بعد وجوب الزكاة فيه، قيل: يضمن قدر الواجب عليه، وقيل: لا يضمن، والله أعلم .




الخدمات العلمية