الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسحه ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله ؟ ! وقاتل دونه نفر خمسة من الأنصار فقتلوا ، وترس أبو دجانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ، فكان يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه ، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناوله السهم ويقول : ارم فداك أبي وأمي .

وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان ، فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، فكانت أحسن عينيه .

وقاتل مصعب بن عمير ومعه لواء المسلمين فقتل ، قتله ابن قمئة الليثي ، وهو يظن أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى قريش وقال : قتلت محمدا . فجعل الناس يقولون : قتل محمد ، قتل محمد .

ولما قتل مصعب أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء علي بن أبي طالب . وقاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني ، فقال له حمزة : هلم إلي يا ابن مقطعة البظور ! وكانت أمه أم أنمار ختانة بمكة ، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله .

قال وحشي : إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهذ الناس بسيفه هذا ، ما يلقى شيئا يمر به إلا قتله ، وقتل سباع بن عبد العزى . قال : فهززت حربتي ودفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه ، وأقبل نحوي فغلب فوقع ، فأمهلته حتى مات [ ص: 46 ] فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر ، فرضي الله عن حمزة وأرضاه .

وقتل عاصم بن ثابت مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة بسهمين ، فحملا إلى أمهما سلافة ، وأخبراها أن عاصما قتلهما ، فنذرت إن أمكنها الله من رأسه أن تشرب فيه الخمر .

وبرز عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان مع المشركين ، وطلب المبارزة ، فأراد أبو بكر أن يبرز إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : شم سيفك ، وأمتعنا بك .

وانتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يحبسكم ؟ قالوا : قد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فما تصنعون بالحياة بعده ! موتوا على ما مات عليه . ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل ، فوجد به سبعون ضربة وطعنة ، وما عرفه إلا أخته ، عرفته بحسن بنانه .

وقيل : إن أنس بن النضر سمع نفرا من المسلمين يقولون لما سمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل : ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي ابن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا . فقال لهم أنس : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد . اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ! ثم قاتل حتى قتل .

وكان أول من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك ، قال : فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا ! هذا رسول الله حي لم يقتل ، فأشار إليه : أنصت . فلما عرفه المسلمون نهضوا نحو الشعب ومعه علي وأبو بكر وعمر وطلحة والزبير والحارث بن الصمة وغيرهم . فلما أسند إلى الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول : يا محمد ، لا نجوت إن نجوت ! فعطف عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطعنه بالحربة في عنقه ، وكان أبي يقول بمكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن عندي العود أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه . فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك - إن شاء الله تعالى - . فلما رجع إلى قريش وقد خدشه [ ص: 47 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدشا غير كبير قال : قتلني محمد . قالوا : والله ما بك بأس . قال : إنه قد كان قال لي أنا أقتلك ، فوالله لو بصق علي لقتلني ! فمات عدو الله بسرف .

وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد قتالا شديدا ، فرمى بالنبل حتى فني نبله ، وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره . ولما جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل علي ينقل له الماء في درقته من المهراس ويغسله ، فلم ينقطع الدم ، فأتت فاطمة وجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع الدم .

ورمى مالك بن زهير الحشمي النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتقاه طلحة بيده ، فأصاب السهم خنصره ، وقيل : رماه حبان بن العرقة ، فقال : حس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لو قال : باسم الله ، لدخل الجنة والناس ينظرون إليه . وقيل : إن يده شلت إلا السبابة والوسطى . والأول أثبت .

وصعد أبو سفيان ومعه جماعة من المشركين في الجبل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ليس لهم أن يعلونا ، فقاتلهمعمر وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوهم ، ونهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصخرة ليعلوها ، وكان عليه درعان فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة حتى صعد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أوجب طلحة .

وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين ، فيهم عثمان بن عفان وغيره ، إلى الأعوص ، فأقاموا به ثلاثا ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة .

والتقى حنظلة بن أبي عامر ، غسيل الملائكة ، وأبو سفيان بن حرب ، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود وهو ابن شعوب ، فدعاه أبو سفيان ، فأتاه ، فضرب حنظلة فقتله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنه لتغسله الملائكة ، فسلوا أهله . فسئلت صاحبته فقالت : خرج وهو جنب ، سمع الهائعة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لذلك غسلته الملائكة .

وقال أبو سفيان يذكر صبره ومعاونة ابن شعوب إياه على قتل حنظلة :

[ ص: 48 ]

ولو شئت نجتني كميت طمرة ولم أحمل النعماء لابن شعوب     فما زال مهري مزجر الكلب منهم
لدن غدوة حتى دنت لغروب أقاتلهم     وأدعي يال غالب وأدفعهم عني
بركن صليب فبكي ولا ترعي مقالة عاذل     ولا تسأمي من عبرة ونحيب أباك
وإخوانا لنا قد تتابعوا وحق لهم من عبرة بنصيب     وسلي الذي قد كان في النفس أنني قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما نجيبا ومصعبا     وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي     لكانت شجا في القلب ذات ندوب



فأجابه حسان بقوله : ذكرت القروم الصيد من آل هاشم     ولست لزور قلته بمصيب أتعجب
أن أقصدت حمزة منهم عشاء     وقد سميته بنجيب ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه وشيبة
والحجاج وابن حبيب غداة دعا     العاص عليا فراعه بضربة عضب بله بخضيب


ووقعت هند وصواحباتها على القتل يمثلن بهم ، واتخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خدما وقلائد ، وأعطت خدمها وقلائدها وحشيا ، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها .

ثم أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال : أفي القوم محمد ؟ ثلاثا ، فقال رسول [ ص: 49 ] الله - صلى الله عليه وسلم : لا تجيبوه . ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثا . ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثلاثا . ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا . فقال عمر : كذبت ، أي عدو الله ، قد أبقى الله لك ما يخزيك . فقال : اعل هبل ، اعل هبل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : إنا لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم . فقال أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر ، أقتلنا محمدا ؟ قال عمر : اللهم لا ، وإنه ليسمع كلامك . فقال : أنت أصدق من ابن قمئة ! ثم قال : هذا بيوم بدر ، والحرب سجال ، أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ، والله ما رضيت ولا سخطت ولا نهيت ولا أمرت .

واجتاز به الحليس بن زبان سيد الأحابيش وهو يضرب في شدق حمزة بزج الرمح ويقول : ذق عقق ! فقال الحليس : يا بني كنانة ، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون . فقال أبو سفيان : اكتمها عني فإنها زلة .

وكانت أم أيمن حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونساء من الأنصار يسقين الماء ، فرماها حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيلها ، فضحك ، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن أبي وقاص سهما وقال : ارمه . فرماه فأصابه ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوتك وسدد رميتك .

ثم انصرف أبو سفيان ومن معه وقال : إن موعدكم العام المقبل . ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا في أثرهم وقال : انظر فإن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم . قال علي : فخرجت في أثرهم ، فامتطوا الإبل وجنبوا الخيل يريدون مكة ، فأقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكتمان .

[ ص: 50 ] وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا أن ينظر في القتلى ، فرأى سعد بن الربيع الأنصاري وبه رمق ، فقال للذي رآه : أبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام وقل له : جزاك الله خير ما جزى نبيا عن أمته ، وأبلغ قومي السلام وقل لهم : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذى وفيكم عين تطرف . ثم مات .

ووجد حمزة ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به ، فحين رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير ، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين رجلا منهم .

وقال المسلمون : لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب ، فأنزل الله في ذلك : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية ، فعفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصبر ، ونهى عن المثلة .

وأقبلت صفية بنت عبد المطلب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنها الزبير ليردها ؛ لئلا ترى ما بأخيها حمزة ، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إنه بلغني أنه مثل بأخي ، وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبن ولأصبرن . فأعلم الزبير النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقال : خل سبيلها . فأتته وصلت عليه واسترجعت ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به فدفن .

وكان في المسلمين رجل اسمه قزمان ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه من أهل النار . فقاتل يوم أحد قتالا شديدا فقتل من المشركين ثمانية أو تسعة ، ثم جرح فحمل إلى داره ، وقال له المسلمون : أبشر قزمان ! قال : بم أبشر ، وأنا ما قاتلت إلا عن أحساب قومي ؟ ثم اشتد عليه جرحه ، فأخذ سهما فقطع رواهشه ، فنزف الدم فمات ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أني رسول الله .

وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي ، قال ذلك اليوم ليهود : يا معشر يهود ، [ ص: 51 ] لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق . فقالوا : إن اليوم السبت . فقال : لا سبت ، وأخذ سيفه وعدته وقال : إن قتلت فمالي لمحمد يصنع به ما يشاء ، ثم غدا فقاتل حتى قتل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : مخيريق خير يهود .

وقتل اليمان أبو حذيفة ، قتله المسلمون ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفعه وثابت بن قيس بن وقش مع النساء ، فقال أحدهما لصاحبه ، وهما شيخان : ما ننتظر ؟ أفلا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لعل الله أن يرزقنا الشهادة . ففعلا ودخلا في الناس ولا يعلم بهما ، فأما ثابت فقتله المشركون ، وأما اليمان فاختلفت عليه سيوف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه ، فقال حذيفة : أبي أبي ! فقالوا : والله ما عرفناه . فقال : يغفر الله لكم . وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يديه ، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين .

واحتمل بعض الناس قتلاهم إلى المدينة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدفنهم حيث صرعوا ، وأمر أن يدفن الاثنان والثلاثة في القبر الواحد ، وأن يقدم إلى القبلة أكثرهم قرآنا ، وصلى عليه ، فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه وصلى عليهما ، وقيل : كان يجمع تسعة من الشهداء وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم ، ونزل في قبره علي وأبو بكر وعمر والزبير ، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حفرته ، وأمر أن يدفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد ، وقال : كانا متصافيين في الدنيا .

فلما دفن الشهداء انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيته حمنة بنت جحش ، فنعى لها أخاها عبد الله ، فاسترجعت له ، ثم نعى لها خالها حمزة فاستغفرت له ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير ، فولولت وصاحت ، فقال : إن زوج المرأة منها لبمكان .

ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح ، فذرفت عيناه فبكى وقال : لكن حمزة لا بواكي له ! فرجع سعد بن معاذ إلى دار بني عبد الأشهل فأمر نساءهم أن يذهبن فيبكين على حمزة .

ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من الأنصار قد أصيب أبوها وزوجها ، فلما نعيا لها [ ص: 52 ] قالت : ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : هو بحمد الله كما تحبين . قالت : أرونيه ، فلما نظرت إليه قالت : كل مصيبة بعدك جلل .

وكان رجوعه إلى المدينة يوم السبت يوم الوقعة .

( نيار بالنون المكسورة ، والياء تحتها نقطتان ، وآخره راء . وجبير بضم الجيم ، تصغير جبر . وخوات بالخاء المعجمة والواو المشددة ، وبعد الألف تاء فوقها نقطتان . وحبان بكسر الحاء المهملة ، وبالباء الموحدة ، وآخره نون . والحليس بضم الحاء المهملة تصغير حلس . وزبان بالزاي ، والباء الموحدة ، وآخره نون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية