الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 435 ] ولا تصح حتى يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام ، والوكيل ممن يعقل العقد ويقصده ، وكل عقد جاز أن يعقده بنفسه جاز أن يوكل به ، فيجوز بالخصومة في جميع الحقوق وإيفائها واستيفائها إلا الحدود ( س ) والقصاص فإنه لا يجوز استيفاؤها مع غيبة الموكل ، ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم ، إلا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا ، وكل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة والصلح عن إقرار تتعلق حقوقه به من تسليم المبيع ونقد الثمن والخصومة في العيب وغير ذلك ، إلا العبد والصبي المحجورين ، فتجوز عقودهما ، وتتعلق الحقوق بموكلهما وإذا سلم المبيع إلى الموكل لا يرده الوكيل بعيب إلا بإذنه ، وللمشتري أن يمتنع من دفع الثمن إلى الموكل ، فإن دفعه إليه جاز ، وكل عقد يضيفه إلى موكله فحقوقه تتعلق بموكله : كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والعتق على مال والكتابة والصلح عن إنكار والهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والإقراض والشركة والمضاربة .

التالي السابق


[ ص: 435 ] كتاب الوكالة

وهي عبارة عن التفويض والاعتماد ، قال تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) أي من اعتمد عليه وفوض أمره إليه كفاه ، ورجل وكل إذا كان قليل البطش ضعيف الحركة يكل أمره إلى غيره فيما ينبغي أن يباشره بنفسه; وقيل الوكالة في اللغة : الحفظ ، قال تعالى : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) أي نعم الحافظ . وقال أصحابنا : إذا قال وكلتك في كذا فهو وكيل في حفظه بقضية اللفظ ، ولا يثبت ما زاد عليه إلا بلفظ آخر ، وأنه قريب من الأول ، فإن من اعتمد على إنسان في شيء وفوض فيه أمره إليه كان أمرا بحفظه ، لأنه إنما فعل ذلك لينظر ما هو الأصلح له ، وأصلح الأشياء حفظ الأصل ؛ لأن التصرفات تبتنى عليه ، وهذه المعاني موجودة في الوكالة الشرعية ، فإن الموكل فوض أمره إلى الوكيل واعتمد عليه ووثق برأيه ليتصرف له التصرف الأحسن ، وكل ذلك يبتنى على الحفظ وهو مشروع بالكتاب ، وهو قوله تعالى : ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ) وبالسنة ، وهو ما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - وكل بالشراء عروة البارقي ، وفي رواية أخرى : حكيم بن حزام ، ووكل في النكاح أيضا عمرو بن أمية الضمري ، وعليه تعامل الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا من غير نكير ، ولأن الإنسان قد يعجز عن مباشرة بعض الأفعال بنفسه فيحتاج إلى التوكيل ، فوجب أن يشرع دفعا للحاجة .

[ ص: 436 ] قال : ( ولا تصح حتى يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام ، والوكيل ممن يعقل العقد ويقصده ) لأن التوكيل استنابة واستعانة ، والوكيل يملك التصرف بتمليك الموكل ، وتلزمه الأحكام ، فوجب أن يكون الموكل مالكا لذلك ليصح تمليكه ، والوكيل يقوم مقام الموكل في الإيجاب والقبول ، فلا بد أن يكون من أهلهما ، فلو وكل صبيا لا يعقل أو مجنونا فهو باطل ، ولو وكل صبيا عاقلا مأذونا أو عبدا مأذونا أو محجورا بإذن مولاه جاز ، وكذلك إذا وكل المسلم ذميا أو بالعكس أو حربيا مستأمنا لما ذكرنا .

قالت : ( وكل عقد جاز أن يعقده بنفسه جاز أن يوكل به ) لما ذكرنا من الحاجة ( فيجوز بالخصومة في جميع الحقوق وإيفائها واستيفائها ) لما ذكرنا من الحاجة لأنه لا يعرف ذلك كل أحد ، والدليل عليه الحديث المشهور : " ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " وعلي - رضي الله عنه - وكل أخاه عقيلا وابن أخيه عبد الله بن جعفر .

قال : ( إلا الحدود والقصاص فإنه لا يجوز استيفاؤها مع غيبة الموكل ) لأن احتمال العفو ثابت للندب إليه وللشفقة على الجنس ، وأنه شبهة وأنها تندرئ بالشبهات ، بخلاف ما إذا حضر لانتفاء هذا الاحتمال . وقال أبو يوسف : لا يجوز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص لأنها نيابة ، فيتحرز عنها في هذا الباب كالشهادة على الشهادة .

ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن الجناية سبب الوجوب والظهور يضاف إلى الشهادة ، والخصومة شرط ، فيجوز التوكيل به كسائر الحقوق ، بخلاف الاستيفاء على ما بينا .

قال : ( ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم ، إلا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا ، وقالا : يجوز بغير رضاه ، ومعناه : أنه لا يجب على الخصم إلا الوكيل عنده وعندهما يجب ، لما [ ص: 437 ] روي أن عليا - رضي الله عنه - وكل بالخصومة مطلقا ، ولأنه توكيل بحق فيجوز كالتوكيل باستيفاء الدين . ولأبي حنيفة - رحمه الله - قوله - عليه الصلاة والسلام - : " يا علي لا تقض لأحد الخصمين حتى يحضر الآخر " وفي رواية : " حتى تسمع كلام الأخر " فيشترط حضوره أو استماع كلامه ، ولأن الخصومة تلزم المطلوب حتى يجب عليه الحضور والجواب ، فلا يجوز أن يحيله على غيره بغير رضاه كالدين ، ولأن الناس يتفاوتون في الخصومة ، فلعل الوكيل يكون أشد خصاما وأكثر احتجاجا فيتضرر الخصم بذلك فلا يلزمه إلا برضاه ، بخلاف المريض العاجز عن الخصومة ، فإنه لا يستحق عليه الحضور ، وكذلك المسافر ، لأن في تكليفه السفر مشقة فلا يلزمه الحضور فجاز لهما التوكيل ، ولا فرق في ظاهر الرواية بين الرجل والمرأة البكر والثيب ، واستحسن المتأخرون أن المرأة إذا كانت مخدرة جاز توكيلها بغير رضاء الخصم لعجزها عن الخصومة بسبب الحياء والدهشة .

قال : ( وكل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة والصلح عن إقرار تتعلق حقوقه به ، من تسليم ونقد الثمن والخصومة في العيب وغير ذلك ، إلا العبد والصبي المحجورين فتجور عقودهما ، وتتعلق الحقوق بموكلهما ) لأن الوكيل هو العاقد ، ولا يفتقر في هذه العقود إلى ذكر الموكل ، والعاقد الآخر اعتمد رجوع الحقوق إليه ، فلو لم ترجع إليه يتضرر على تقدير كون الموكل مفلسا ، أو من لا يقدر على مطالبته واستيفاء الثمن منه وأنه منتف ، بخلاف النكاح وأخواته فإنه لا بد من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه فلا ضرر حينئذ ، وكذلك الرسول لأنه يضيف العقد إلى مرسله ، ولأن الوكيل هو العاقد حقيقة بكلامه ، وحكما لعدم إضافة العقد إلى غيره فيكون أصلا في الحقوق ، ثم يثبت الملك للموكل خلافة نظرا إلى التوكيل السابق كالعبد يتهب أو يصطاد . أما الصبي والعبد فينفذ تصرفهما لأنهما من أهله ، حتى لو كانا مأذونين جاز على ما مر في الحجر ، إلا أن الحقوق لا تتعلق بهما لأنهما ليسا من أهل التبرعات والتزام العهدة لقصور أهلية الصبي ولحق السيد فيلزم الموكل . وعن أبي يوسف لو علم العاقد الآخر أنه محجور عليه بعد العقد فله خيار العيب لاعتقاده رجوع الحقوق إلى العاقد ، وقد فاته فيتخير .

[ ص: 438 ] قال : ( وإذا سلم المبيع إلى الموكل لا يرده الوكيل بعيب إلا بإذنه ) لأنه تعلق به حق الموكل وانتقل الملك إليه فصار كما إذا باعه من آخر .

قال : ( وللمشتري أن يمتنع من دفع الثمن إلى الموكل ) لما بينا أن الحقوق راجعة إلى الوكيل فهو أجنبي من العقد .

( فإن دفعه إليه جاز ) لأنه حقه ، وليس للوكيل أن يطالبه به ، إذ لا فائدة في الأخذ منه ثم يدفعه إليه ، ولو كان للمشتري عليهما دين أو على الموكل تقع المقاصة بدين الموكل لما بينا أنه حقه ، وتقع المقاصة بدين الوكيل لو كان وحده ، لأنه يملك الإبراء عنه لكن يضمنه للموكل .

قال : ( وكل عقد يضيفه إلى موكله فحقوقه تتعلق بموكله : كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد ) فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها ، ولا بدل الخلع ؛ لأن الوكيل سفير ، ولهذا لا بد له من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه ، حتى لو أضاف العقد إلى نفسه كان النكاح واقعا له لا لموكله كالرسول . والخلع ، والصلح عن دم العمد إسقاط كما يوجد يتلاشى فلا يمكن صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره .

( و ) على هذا . ( العتق على مال والكتابة والصلح عن إنكار والهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والإقراض والشركة والمضاربة ) لأن الحكم يثبت في هذه الأشياء بالقبض . وأنه يلاقي محلا مملوكا للموكل فكان سفيرا ، وكذا لو كان وكيلا من الجانب الآخر لأنه يضيف العقد إلى المالك إلا في الاستقراض فإن التوكيل به باطل ، ولا يثبت الملك فيه للموكل بخلاف الرسول .



فصل

الجهالة ثلاثة أنواع : فاحشة ، ويسيرة ، وبينهما .

فالأولى جهالة الجنس كالتوكيل بشراء ثوب أو دابة فإنه لا يصح وإن سمى الثمن ، لأنه لا يمكن الوكيل امتثال ما وكله به لتفاوته تفاوتا فاحشا .

[ ص: 439 ] والثانية جهالة النوع والصفة كالحمار والفرس وقفيز حنطة وثوب هروي ، فإنه يصح وإن لم يقدر الثمن ؛ لأن الوكيل يقدر على تحصيل مقصوده وتتعين الصفة بحال الموكل ، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف المقصود ، فصار كأنه وكله بشراء ثوب هروي بأي صفة كان وبالثمن المعتاد ، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل حكيم بن حزام بشراء شاة للأضحية .

والثالثة التوكيل بشراء عبد أو جارية أو دار إن سمى الثمن صح وإلا فلا ، لأن الجمال منفعة مقصودة من بني آدم ، ويختلف في ذلك الهندي والتركي ، فإذا سمى الثمن ألحقناه بمجهول النوع ، وإن لم يسم ألحقناه بجهالة الجنس ؛ لأن بالتسمية يصير معلوم النوع عادة ، فإن ثمن كل نوع معلوم عادة .




الخدمات العلمية