الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ونصالحهم ولو بمال لو خيرا ) لقوله تعالى { ، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين ; لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به ، فإذا وقع الصلح أمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وأمن من أمنوه وصار في حكمهم كما في الولوالجية أراد بالصلح العهد على ترك الجهاد مدة معينة أي مدة كانت ولا يقتصر الحكم على المدة المذكورة في المروي لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها وقيد بالخير ; لأنه لا يجوز بالإجماع إذا لم يكن فيه مصلحة وأطلق في قوله ولو بمال فشمل المال المدفوع منهم إلينا وعكسه ، والأول ظاهر إذا كان بالمسلمين حاجة إليه ; لأنه جهاد معنى ولأنه إذا جاز بغير المال فبالمال أولى ، وإن لم يكن إليهم حاجة به لا يجوز ; لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى ، والمأخوذ منهم يصرف مصارف الجزية ; لأنه مأخوذ بقوة المسلمين كالجزية إلا إذا نزلوا بدارهم للحرب فحينئذ يكون غنيمة لكونه مأخوذا بالقهر ، والثاني لا يفعله الإمام لما فيه من إعطاء الدنية ولحوق المذلة إلا إذا خاف على المسلمين ; لأن دفع الهلاك بأي طريق أمكن واجب وذكر الولوالجي لو دخل الموادعون بلدة أخرى لا موادعة معهم فغزا المسلمون في تلك البلدة فهؤلاء آمنون لبقاء الأمان ولو أسر من الموادعين أهل دار أخرى فاستولى عليه المسلمون كان فيئا ; لأن حكم الموادعة بطل في حق الأسير . ا هـ .

                                                                                        وفي المحيط ولو وقع الصلح ثم سرق مسلم منهم شيئا لا يملكه وكذا إن أغار المسلمون عليهم وسبوا قوما منهم لم يسع المسلمين الشراء من ذلك السبي ويرد المبيع ومن دخل منهم دارنا بغير أمان لا نتعرض له ; لأن الموادعة السابقة كافية في إفادة الأمان والعصمة ا هـ .

                                                                                        وأطلق في المصالح ولم يقيده بالإمام ; لأن موادعة المسلم أهل الحرب جائزة كإعطائه الأمان ، فإن كان على مال ولم يعلم الإمام ذلك ، فإن مضت المدة أخذه وجعله في بيت المال ، وإن علم بها قبل مضيها ، فإن كان فيها خير أمضاها وأخذ المال وإلا أبطلها ورد المال ونبذ إليهم ، وإن كان بعد مضي البعض رد كل المال [ ص: 86 ] استحسانا بخلاف ما إذا وادعهم ثلاث سنين كل سنة بكذا وقبض المال كله ثم أراد الإمام نقضها بعد مضي سنة ، فإنه يرد الثلثين لتفريق العقود هنا بتفريق التسمية بخلاف الأول ، فإن العقد واحد ولو وادع المسلمون أهل الحرب على أن يؤدوا كل سنة مائة رأس إلينا وفيها خير ، فإن كانت من أنفسهم وأهليهم وذراريهم لم يصح ; لأن الكل دخلوا تحت الأمان فلا يجوز استرقاقهم وتمليكهم ، وإن صالحوا على مائة رأس بأعيانهم أول سنة على أن يكون أولئك لهم ثم يعطوهم كل سنة مائة رأس من رقيقهم جاز لعدم دخولهم تحت الأمان وتمامه في المحيط .

                                                                                        وذكر الولوالجي وهذا كله إذا وقع الصلح على أن يكونوا مبقين على أحكام الكفر ، فإن وقع الصلح على أن تجري عليهم أحكام الإسلام فقد صاروا ذمة ولا يسع للمسلمين أن لا يقبلوا ذلك منهم ; لأنهم لما قبلوا حكم الإسلام صاروا من جملة أهلها ( قوله وننبذ لو خيرا ) ; لأنه عليه السلام نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهارا وإبقاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى فلا بد من النبذ تحرزا عن الغدر ولا بد من اعتبار مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد عمله بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته ; لأن بذلك ينتفي الغدر ، فإن كانوا خرجوا من حصونهم وتفرقوا في البلاد أو خربوا حصونهم بسبب الأمان فحتى يعودوا كلهم إلى مأمنهم ويعمروا حصونهم مثل ما كانت توقيا عن الغدر وفي المغرب نبذ الشيء من يده طرحه ورمى به نبذا ونبذ العهد نقضه وهو من ذلك ; لأنه طرح له وفي النهاية ، والمراد هنا من قوله فلا بد من النبذ إعلام نقض العهد .

                                                                                        وذكر الشارح أن النبذ يكون على الوجه الذي كان الأمان ، فإن كان منتشرا يجب أن يكون النبذ كذلك ، وإن كان غير منتشر بأن أمنهم واحد من المسلمين سرا يكتفى بنبذ ذلك الواحد كالحجر بعد الإذن وهذا إذا صالحهم مدة فرأى نقضه قبل مضي المدة ، وأما إذا مضت المدة ، فإنه يبطل الصلح بمضيها فلا ينبذ إليهم ومن كان منهم في دارنا فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ; لأنه في يدنا بأمان كذا ذكره الولوالجي

                                                                                        ( قوله : ونقاتل بلا نبذ لو خان ملكهم ) ; لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه أطلق في خيانة ملكهم فشمل ما إذا كان باتفاق الكل أو بفعل بعضهم بإذنه حتى لو دخل جماعة منهم ذو منعة دار الإسلام بإذنه وقاتلوا المسلمين كان نقضا وقيد بملكهم ; لأنه لو دخل جماعة بغير إذنه لم ينتقض في حق الكل ، وإنما ينتقض في حق الخائنين حتى يجوز قتلهم واسترقاقهم ، وإن لم يكن لهم منعة لم يكن نقضا للعهد

                                                                                        [ ص: 86 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 86 ] ( قوله : لأنه عليه السلام نبذ الموادعة إلخ ) كذا في الهداية واعترضها في الفتح بأن الأليق أن يجعل دليلا لما يأتي من قوله ونقاتل بلا نبذ لو خان ملكهم إلخ ; لأنه عليه السلام لم يبدأ أهل مكة بل هم بدءوا بالغدر قبل مضي المدة فقاتلهم ولم ينبذ إليهم بل سأل الله تعالى أن يعمي عليهم حتى يبغتهم وهذا هو المذكور لجميع أهل السير والمغازي ومن تلقى القصة وذكروها .




                                                                                        الخدمات العلمية