الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله :( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال النحويون : في الآية محذوف ، كأنه قيل : إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ، ويجوز أيضا أن يكون هذا اللام بمعنى " أن " كقوله :( يريد الله ليبين لكم ) [ النساء : 26 ] . أي : أن يبين لكم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير . والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وقال القاضي : وههنا سؤالان : الأول : وهو أن يقال : المال والولد لا يكونان عذابا ، بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده ، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير ، إلا أن هذا الالتزام لا يدفع هذا السؤال ؛ لأنه يقال بعد هذا التقديم والتأخير ، [ ص: 75 ] فكيف يكون المال والولد عذابا ؟ فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا : أراد التعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب ، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير ؛ لأنه يصح أن يقال : يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سببا للعذاب ، وأيضا فلو أنه قال : " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا " لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة ؛ لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا ، وليس كذلك حال العذاب ؛ فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة ، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سببا للعذاب في الدنيا ، ويحتمل أن تكون سببا للعذاب في الآخرة . أما كونها سببا للعذاب في الدنيا فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى ، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب ، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب ، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها ، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها . فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب ؛ إما بسبب خوف فواتها ، وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها ، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ، فالمشغوف بالمال والولد أبدا يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال ، فالتعب كثير والنفع قليل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد ، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره أو لا تبقى ، بل تهلك وتبطل . فإن كان الأول ، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته ؛ لأن مفارقة المحبوب شديدة ، وترك المحبوب أشد وأشق ، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها ، واشتد تألم قلبه بسببها ، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن الدنيا حلوة خضرة ، والحواس مائلة إليها ، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها ، فيصير ذلك سببا لحرمانه عن ذكر الله ، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر ، وكلما كان المال والجاه أكثر ، كانت تلك القسوة أقوى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ] . فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب ، وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب ، فعند الموت كأن الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ، ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة ، فيعظم تألمه وتقوى حسرته ، ثم عند الحشر حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل ، فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا ، وأما المنافق لما اعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها ، واشتد حبه لها ، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه ، [ ص: 76 ] وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته ، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو ، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل ، والقوم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس بصادق في كونه رسولا من عند الله ، وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة ، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ، ولا شك أن هذا أشق على القلب جدا ، فهذه الزيادة من التعذيب كانت حاصلة للمنافقين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنهم كانوا يبغضون محمدا عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما ، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار ، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل ، وسبي الأولاد ونهب الأموال ، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة ، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم ، وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء ، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ، شهد بدرا وكان من الله بمكان ، وهم خلق كثير مبرؤون عن النفاق ، وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ، ويقدحون فيهم ، ويعترضون عليهم ، والابن إذا صار هكذا عظم تأذي الأب به واستيحاشه منه ، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم ، وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء ، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق ، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سببا لحصول هذه الأحوال ، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سببا لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية