الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين

                                                                                                                                                                                                                                      في ريب أي شك مما نزلنا على عبدنا : أي القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل .

                                                                                                                                                                                                                                      والتنزيل التدريج والتنجيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأتوا الفاء جواب الشرط وهو أمر معناه التعجيز .

                                                                                                                                                                                                                                      لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة ، فتحداهم بأن يأتوا بسورة من سوره .

                                                                                                                                                                                                                                      والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص ، سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن في قوله : من مثله زائدة لقوله : فأتوا بسورة مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في مثله عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : عائد على التوراة والإنجيل ، لأن المعنى : فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمعنى من بشر مثل محمد : أي لا يكتب ولا يقرأ .

                                                                                                                                                                                                                                      والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون ، والمراد هنا الآلهة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى دون : أدنى مكان من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر ، ومنه ما في هذه الآية ، وكذلك قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [ آل عمران : 28 ] وله معان أخر ، منها التقصير عن الغاية والحقارة ، يقال : هذا الشيء دون : أي حقير ، ومنه : إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا والقرب يقال هذا دون ذاك : أي أقرب منه ويكون إغراء ، تقول : دونك زيدا : أي خذه من أدنى مكان من دون الله متعلق بـ " ادعوا " : أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والصدق خلاف الكذب ، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما على الخلاف المعروف في علم المعاني .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن لم تفعلوا يعني فيما مضى ولن تفعلوا أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبين لكم عجزكم عن المعارضة فاتقوا النار بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار ، وجملة لن تفعلوا لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية ، ولن للنفي المؤكد لما دخلت عليه ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها ، لأنها لم تقع المعارضة من أحد الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الآن .

                                                                                                                                                                                                                                      والوقود بالفتح : الحطب ، وبالضم : التوقد أي المصدر ، وقد جاء في الفتح .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقودا للنار معهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل على هذا قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ الأنبياء : 98 ] أي حطب جهنم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد بها حجارة الكبريت ، وفي هذا من التهويل ما لا يقدر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة ، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها ، والمراد بقوله : أعدت جعلت عدة لعذابهم وهيئت لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار بهذا في مواضع في القرآن ، منها هذا ، ومنها قوله تعالى في سورة القصص : قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين [ القصص : 49 ] [ ص: 38 ] وقال في سورة سبحان : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ الإسراء : 88 ] وقال في سورة هود : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ هود : 13 ] وقال في سورة يونس : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ يونس : 37 ، 38 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر ، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه ، والحق الأول ، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : وإن كنتم في ريب قال : هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : وإن كنتم في ريب قال : في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله قال : من مثل القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد فأتوا بسورة من مثله قال : مثل القرآن وادعوا شهداءكم قال : ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : شهداءكم قال : أعوانكم على ما أنتم عليه فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فقد بين لكم الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا يقول : لن تقدروا على ذلك ولن تطيقوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن وقودها برفع الواو الأولى ، إلا التي في السماء ذات البروج النار ذات الوقود [ البروج : 5 ] بنصب الواو .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله : وقودها الناس والحجارة [ البقرة : 24 ] حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير أيضا عن عمرو بن ميمون مثله أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية وقودها الناس والحجارة قال : أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ؟ قال : فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعا نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون ، إنها لأشد سوادا من القار .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : أعدت للكافرين قال : أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية