الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ومسحه ببلل لحيته أو ذراعيه يأتي في الموالاة .

                                                                                                                            ص ( وهل الموالاة واجبة إن ذكر وقدر وبنى بنية إن نسي مطلقا وإن عجز بنى ما لم يطل بجفاف أعضاء بزمن اعتدلا أو سنة ؟ خلاف ) ش هذه هي الفريضة السادسة وهي الموالاة قال في الذخيرة : وهي حقيقة في المجاورة في الأجسام وهي المجاورة في الأماكن ، مجاز في الأفعال ، ومنه الولاء والأولياء والتوالي انتهى . وهي في الشرع عبارة عن الإتيان بجميع الطهارة في زمن متصل من غير تفريق فاحش ومنهم من يعبر عنها بالفور قال ابن عبد السلام : والعبارة الأولى أشد لكونها تقتضي الفورية فيما بين الأعضاء خاصة من غير تعرض للعضو الأول وأما لفظ الفور فيقتضي وجوب تقديم الوضوء أول الوقت ، قال : وكذلك أيضا الصحيح عدها من الفرائض وأشار بعض الأئمة إلى أنها من باب المناهي والتروك ، احتج على ذلك بأن المشهور في تركها الفرق بين العمد والسهو وهو أصل التروك .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) ذكر المصنف في حكم الموالاة قولين : الأول : أنها واجبة مع الذكر والقدرة ، ساقطة مع العجز والنسيان قال ابن ناجي في شرح المدونة : وهو المشهور وعزاه ابن الفاكهاني لمالك وابن القاسم وشهره أيضا ، والقول الثاني أنها سنة ، قال في التوضيح وشهره في المقدمات انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) لكنه وافق في التفريع عليه القول الأول ، فجعل التفريق عمدا يبطل الوضوء على قول ابن القاسم قال فيها : وأما الفور ففيه ثلاثة أقوال : فرض على الإطلاق وهو قول عبد العزيز بن أبي مسلمة ، وسنة على الإطلاق وهو المشهور في المذهب ، والثالث فرض فيما يغسل سنة فيما يمسح وهو أضعف الأقوال ، فعلى الأول يجب إعادة الوضوء والصلاة على من فرقه ناسيا أو عامدا ، وعلى الثاني إن فرقه ناسيا فلا شيء عليه وإن فرقه عامدا ففي ذلك قولان أحدهما أنه لا شيء عليه وهو قول محمد بن عبد الحكم والثاني أنه يعيد الوضوء والصلاة لترك سنة من سننها عامدا ; لأنه كاللاعب المتهاون وهذا مذهب ابن القاسم ومن أصحابنا من يعبر على مذهبه هذا في الفور أنه فرض بالذكر يسقط بالنسيان انتهى .

                                                                                                                            قال ابن ناجي : وزعم عياض في الإكمال أن القول بالسنية هو المشهور قال ابن ناجي : وقد اختلف المذهب في الموالاة على سبعة أقوال فحكى الأربعة المتقدمة أعني الثلاثة التي ذكرها ابن رشد والقول الأول في كلام المصنف قال : والخامس واجبة في المغسول والممسوح البدلي دون الأصلي رواه عبد الملك ، والسادس مستحبة حكاه ابن شاس عن ابن القصار عن بعض أصحاب مالك فجعله [ ص: 224 ] ابن هارون سادسا كما قلنا ، وقال ابن عبد السلام ، لعله يرجع إلى القول بالسنية ; لأن العراقيين يطلقون على السنة الاستحباب ، والسابع واجبة إذا توضأ في وقت الصلاة وغير واجبة إذا توضأ قبل الوقت حكاه ابن جماعة وحكى ابن شاس وابن الحاجب والمصنف في التوضيح الخمسة الأول قال في التوضيح : وبعض المصنفين يحكي الخمسة الأقوال التي ذكرها المصنف يعني ابن الحاجب في حكمها ابتداء وابن الحاجب ذكر الخلاف أولا في حكمها بالسنية والوجوب ثم حكى فيها الخلاف إذا نزل يعني - والله أعلم - على ما هو أعم من كل واحد من القولين أعني القول بالوجوب والقول بالسنية انتهى .

                                                                                                                            قال ابن فرحون : وأقوى ما استدل به للوجوب ظاهر الآية فإن العطف بالفاء يقتضي الترتيب من غير مهلة وعطف الأعضاء بعضها على بعض بالواو يقتضي جعلها في حكم جملة واحدة فكأنه قال : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء .

                                                                                                                            ( قلت ) واستدل له أيضا بأن الأمر في الآية للفور وبأن الخطاب ورد بصيغة الشرط والجزاء ومن حق الجزاء أن لا يتأخر عن الشرط ، وبقوله صلى الله عليه وسلم وقد توضأ مرة مرة في فور واحد { هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به } فنفى القبول عند انتفائه قال القرافي : وفيه نظر ; لأن الإشارة إليه من حيث هو مرة مرة على الصحيح لا إليه بما وقع فيه من القيود وإلا لاندرج في ذلك الماء المخصوص والفاعل والمكان والزمان وغيره وهو خلاف الإجماع ثم قال : ولك أن تقول : الإشارة إلى المجموع فإن خرج شيء بالإجماع بقي الحديث متناولا لصورة النزاع ، أما إسقاط الوجوب مع النسيان فلضعف مدرك الوجوب بالمتأكد بالنسيان ، والكلام في الاستدلال ورده يطول .

                                                                                                                            ( قلت ) فتحصل من هذا أن المعتمد في المذهب أن من فرق الطهارة عامدا أعاد الوضوء والصلاة أبدا ، ومن فرقها ناسيا أو عاجزا بنى ، واختلف الأصحاب في التعبير عن هذا فمنهم من يقول : إنها واجبة مع الذكر والقدرة ، ومنهم من يقول : إنها سنة فالخلاف إنما هو في التعبير كما تقدم في حكم إزالة النجاسة فتأمله منصفا .

                                                                                                                            ( الثاني ) ظاهر كلام المصنف أن التفريق عمدا يبطل الوضوء ولو كان يسيرا وليس ذلك مراده بل التفريق اليسير لا يضر ولو كان عمدا . قال القاضي عبد الوهاب : لا يختلف المذهب فيه ( قلت ) وحكى الاتفاق في ذلك ابن الفاكهاني عن عبد الحق .

                                                                                                                            ونصه : وأما التفريق غير المتفاحش فلا تأثير له عمدا كان أو سهوا . قال عبد الحق : ولا خلاف في ذلك في المذهب انتهى . وقال ابن الحاجب : والتفريق اليسير مغتفر قال في التوضيح : وحكى عبد الوهاب فيه الاتفاق انتهى . وحكى ابن فرحون وابن ناجي وغيرهما في ذلك خلافا وحكى صاحب الطراز في ذلك قولين وقال : المشهور أنه لا يضر . قال ابن فرحون في شرح قول ابن الحاجب المتقدم يعني إذا فرق الوضوء تفريقا يسيرا فهو مغتفر فيجوز له البناء على ما تقدم من وضوئه . وحكى عبد الوهاب فيه الاتفاق وابن الحاجب وغيره يمنع البناء وهما على الخلاف فيما قارب الشيء هل يعطى حكمه أم لا ؟ ونحوه حكى صاحب الجمع عن ابن راشد وقال في الطراز : إذا قلنا التفريق المؤثر هو العمد فهل يستوي قليله وكثيره إذا لم يكن معه عذر مشهور ؟ المذهب أن اليسير الذي لا يحرم الموالاة وحكم الفور لا يفسد .

                                                                                                                            وقد قال مالك في المغتسل من الجنابة : إذا مس ذكره في أثنائه يمر بيديه على مواضع الوضوء ويجزيه وهذا تفريق في الغسل ، وفي المجموعة عن مالك أنه كان يتنشف من وضوئه قبل غسل رجليه ثم يغسل رجليه ، وقال ابن الجلاب في تفريعه : لا يجوز تفريق الطهارة واستدل للأول بحديث البخاري { أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل ثم تنحى فغسل قدميه } وبحديث المغيرة بن شعبة في وضوئه عليه الصلاة والسلام { اغتسل وعليه جبة شامية ضيقة الكم فترك [ ص: 225 ] صلى الله عليه وسلم وضوءه وأخرج يديه من كميه من تحت ذيله حتى غسلهما } .

                                                                                                                            ( الثالث ) إذا قلنا : إن التفريق اليسير لا يضر فظاهر كلامهم أنه لا كراهة في ذلك ، وقال ابن ناجي في شرح المدونة : ولا خلاف أن التفريق اليسير مكروه قاله عبد الوهاب وليس كذلك بل ظاهر كلام الجلاب أنه ممنوع ولا أعرف له موافقا ، وقول ابن راشد وابن الجلاب وغيره يحكي المنع لا أعرفه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وكلام القاضي في المعونة والتلقين لا يقتضي الكراهة وكذا كلام غيره لكن وجه الكراهة ظاهر إذا كان التفريق لغير عذر وبذلك صرح الشبيبي في شرح الرسالة فقال : وأما التفرقة اليسيرة فغير مفسدة بغير خلاف إلا أنها تكره من غير ضرورة انتهى . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع ) قال ابن فرحون : وحد اليسير ما لم تجف أعضاء الوضوء ، كما قالوا في حق من قصر ماؤه عن كفايته انتهى . وأصله لابن عبد السلام وسيأتي في الكلام على الترتيب عن المقدمات ويؤخذ منه نحو ما قاله ابن فرحون .

                                                                                                                            ( قلت ) هذا خلاف ما حكاه صاحب الجمع عن ابن هارون ونصه في شرح قول ابن الحاجب والتفريق اليسير مغتفر وهذا عندي لا يحد بجفاف الأعضاء كما حد في حق العاجز للماء بل هو أقل من ذلك لعدم عذره انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا هو الظاهر من كلام أهل المذهب كما ستراه ، وأما ما قاله ابن فرحون فغير ظاهر ; لأنهم جعلوا العجز عذرا يعذر به في التفريق مع عدم جفاف الأعضاء ، والتفرقة اليسيرة مغتفرة ولو كانت بلا عذر فتأمله ولما ذكر أن الموالاة واجبة مع الذكر والقدرة وأخذ يبين حكم ما إذا ترك الموالاة نسيانا أو عجزا وبدأ بالنسيان فقال : وبنى بنية إن نسي مطلقا يعني أن من نسي عضوا من أعضائه أو لمعة منه فإنه يبني على وضوئه المتقدم ويغسل ذلك العضو أو اللمعة مطلقا طال أو لم يطل . يريد ويعيد ما بعد ذلك العضو أو تلك اللمعة من أعضاء وضوئه مفروضة كانت أو مسنونة . قاله في النوادر ونقله الجزولي وغيره ، وهذا إذا كان ذكر بالقرب قبل جفاف أعضائه ، وإن ذكر بعد الطول بجفاف أعضائه لم يعد ما بعد ذلك العضو ولا ما بعد تلك اللمعة ، قال في الرسالة : ومن ذكر من وضوئه شيئا مما هو فريضة منه فإن كان بالقرب منه أعاد ذلك وما يليه وإن تطاول ذلك أعاده فقط ، وحد الطول الجفاف قاله في المدونة ، واستغنى المصنف عن هذا بما سيذكره في الكلام على الترتيب من إعادة المنكس ، وحده إن بعد بجفاف وإلا فيعيده مع تابعه وسيأتي أن حكم المنكس والمنسي في الإعادة سواء عند ابن القاسم فإن إعادة ما بعده إنما هي لأجل الترتيب فلو لم يعد ما بعده لم يكن عليه شيء كما صرح بذلك ابن ناجي في شرح الرسالة والشيخ زروق والجزولي والشيخ يوسف بن عمر .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) إذا كانت إعادة ما بعد المنسي إنما هي لأجل حصول الترتيب فتكون الإعادة سنة وهذا هو الذي يفهم من كلام الشيخ زروق ومن كلام ابن بشير وغيرهما من أهل المذهب ، قال الشيخ زروق : وإنما يعيد ما يليه إذا كان بالقرب للترتيب ، والمشهور أن الترتيب بين الفرائض سنة فلو ترك إعادة ما يليه لم يكن عليه شيء انتهى . وقال ابن بشير لما تكلم على حكم من ترك سنة من سنن الوضوء : إن السنن التي يتداركها ويأتي بها أربعة المضمضة والاستنشاق ومسح داخل الأذنين والترتيب ، ولا معنى لتداركه للترتيب إلا إتيانه لما فعله في محله وقال ابن ناجي في شرح الرسالة : وإعادة ما بعد المتروك مستحبة للترتيب انتهى . ونحوه للجزولي والشيخ يوسف بن عمر والظاهر عندي أن مرادهم بالاستحباب ما يقابل الوجوب فهو شامل للسنة أي وليس مرادهم بالمستحب الذي هو أحط رتبة من السنة بدليل قوله للترتيب فتأمله . ومثل هذا يقال في إعادة ما بعد المنكس الآتي ذكره وكلام ابن بشير وابن الحاجب يدل على ما ذكرناه .

                                                                                                                            ( الثاني ) تقدم أنه يعيد ما بعد المنسي من [ ص: 226 ] مسنونات الوضوء والذي يظهر لي أن ذلك إنما هو بحكم التبع للفرائض وإلا فسيأتي أن الترتيب بين السنن والفرائض مستحب وأنه لا يعيد لأجل ذلك فتأمله .

                                                                                                                            ( الثالث ) ما وجه التفريق بين القرب والبعد وإعادة ما بعد المنسي في القرب وعدم الإعادة مع البعد ؟ فسيأتي بيان ذلك في الكلام على الترتيب إن شاء الله تعالى ، وقوله : بنية يعني إذا قلنا في النسيان يبني على ما تقدم فلا بد من نية فلو حصل غسل العضو المنسي بلا نية لم يجزه ذلك حتى ينويه . قال في المدونة : ومن بقيت رجلاه من وضوئه فخاض بهما نهرا فدلكهما بيده فيه ولم ينو تمام وضوئه لم يجزه حتى ينويه . ابن يونس : معناه أنه كان نسي رجليه وظن أنه أكمل فلذلك احتاج إلى تجديد انتهى . وقوله : مطلقا أي طال الفصل أو لم يطل وقوله : وإن عجز ما لم يطل لما ذكر حكم من نسي الموالاة ذكر حكم من تركها عجزا كمن عجز ماؤه وقام لطلبه فيبني ما لم يطل ، وظاهره سواء أعد من الماء ما يكفيه فأهريق أو غصب أو ابتدأ الوضوء بما يظن أنه يكفيه فتبين عدم كفايته وهو ظاهر المدونة عند الباجي وجماعة واستظهره ابن الفاكهاني قال في المدونة : ومن توضأ بعض وضوئه فعجز ماؤه فقام لطلبه فإن قرب بنى وإن تباعد وجف وضوءه ابتدأ وضوءه قال عياض : ذهب بعض الشيوخ إلى أن معناه أنه لم يعد من الماء ما يكفيه فكان كالمفرط والمغرر ولو أعد ما يكفيه فأهريق له أو غصب لكان حكمه كالناسي وعلى هذا تحمل رواية ابن وهب أنه يبني إذا عجز وإن طال ، وحمله الباجي على الخلاف وقال غيره وقد يحتمل أنهما سواء على قول من قال من أصحابنا : إن الموالاة واجبة مع الذكر وهذا إذا ذكر ، نقله في التوضيح .

                                                                                                                            ( قلت ) وبعض الشيوخ الذي أشار إليه عياض هو اللخمي فإنه لم يحك خلافا فيما إذا غصب منه الماء أو أهريق أنه يبني ولو طال ونصه : وينبغي موالاة الوضوء والغسل فإن غلب على ذلك بعد أن أخذ من الماء قدر كفايته ثم غصبه أو أهريق جاز له أن يبني على ما مضى منه وإن بعد طلبه للماء ، واختلف إذا فرقه ناسيا أو متعمدا ثم ذكر الخلاف وذكر صاحب الجمع عن ابن رشد أن من كان مجبرا على التفريق فإنه يبني وإن طال بلا خلاف ونصه : التفريق للعذر له ثلاثة أحوال : الأول : أن يكون مجبرا على التفريق ولا خلاف أعلمه أن له أن يبني وألحق به اللخمي من ابتدأ بماء كاف فأراقه له رجل أو غصب منه ، قال : فله أن يبني وإن طال ولم يحك فيه خلافا . الثاني : أن يفرق ناسيا وهذا يبني وإن طال . الثالث : أن يعجز ماؤه وقد ابتدأ بما ظنه كافيا وهذا يبني فيما قرب دون ما بعد ولا يبعد أن يعذر باجتهاده ، وذكر الزهري في قواعده عن ابن القصار نحو ذلك ، ونصه : قال ابن القصار إن أعد من الماء ما يكفيه ثم غصب له أو أريق له أو أراقه هو من غير تعمد فإنه يبني على ما مضى وإن طال طلبه للماء ، وقيل : يدخله الخلاف ، وحكى في التوضيح عن ابن بزيزة في ذلك قولين وأن المشهور البناء ونصه : قال ابن بزيزة : ذكر المتأخرون في العاجز ثلاث صور .

                                                                                                                            ( الأولى ) أن يقطع أن الماء يكفيه .

                                                                                                                            ( الثانية ) أن يقطع أن الماء لا يكفيه .

                                                                                                                            ( الثالثة ) أن يشك في ابتداء وضوئه هل يكفيه أم لا ففي كل صورة قولان الابتداء والبناء ، والمشهور في الأولى البناء وفي الثانية والثالثة الابتداء . ووجه ذلك ظاهر انتهى . ونقله ابن ناجي وقال ابن الفاكهاني : من أخذ من الماء ما يكفيه فأهريق أو غصب سوى اللخمي بينه وبين الناسي ، وظاهر كلام ابن الجلاب أو نصه خلاف هذا وهو الأظهر إذ النسيان يتعذر الانفكاك عنه بخلاف الغصب والإهراق فإنه نادر انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) فظهر من هذا أن العاجز إذا أعد من الماء ما يكفيه ثم غصبه أو أهريق له أو أهراقه بغير تعمد أو أكره على التفريق يبني وإن طال كالناسي بلا خلاف عند بعضهم كما يظهر من كلام اللخمي وابن راشد وعند بعضهم على الراجح . فكان ينبغي [ ص: 227 ] للمصنف أن يستثني هذه الصورة أو يحكي فيها خلافا إن كان ترجح عنده كلام الباجي ومن وافقه في حمل كلام المدونة على إطلاقه ، وحكى في الطراز عن التونسي ترددا في المسألة من غير أن يرجح أحد منهما شيئا .

                                                                                                                            ( تنبيه ) استثنى الرجراجي من صور العجز الصورة الثانية وهي ما إذا أعد من الماء ما لا يكفيه قطعا فإنه لا يبني طال أو لم يطل ونصه : وأما إن تعمد وأخذ ما لا يكفيه فلا يجوز له البناء طال أو لم يطل ; لأنه قد تعمد إلى تفريق الطهارة ، وهو ظاهر كلام المشذالي فإنه قال : في قوله في المدونة فعجز ماؤه يريد إذا أعد ما يكفيه وإلا ابتدأ .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا هو الظاهر إلا أن يكون التفريق يسيرا مما يغتفر ابتداء والله تعالى أعلم . وقوله : بجفاف أعضاء بزمن اعتدلا أي الأعضاء والزمان وهذا بيان لحد الطول وقد اختلف فيه ، والمشهور أنه مقدر بجفاف الأعضاء من الجسم المعتدل في الزمان المعتدل ; لأن عدم الجفاف مظنة القرب في العادة قال في الذخيرة والتقييد بالجفوف لأكثر الفقهاء مالك والشافعي وابن حنبل وجماعة فكان قيام البلل عندهم يدل على بقاء أثر الوضوء فيتصل الأخير بأثر الغسل السابق وقيل : بل الطول محدد بالعرف حكاه القابسي وعياض قال ابن ناجي وعزا الفاكهاني الأول لابن حبيب فقط وهو قصور ; لأنه نص المدونة .

                                                                                                                            ( قلت ) قد عزاه الفاكهاني في باب صفة الوضوء للمدونة ونصه وأما حد التفاحش فأشار في الكتاب إلى أن الضابط في التفاحش أن يجف ما غسل من أعضائه ، وكأنه يريد في الزمان المعتدل والمزاج المعتدل من الناس وأما في باب جامع في الصلاة فعزاه لابن حبيب ونصه : وعند ابن حبيب مقداره ما يجف وضوءه في زمن معتدل ، وكان بعض شيوخنا يزيد في الأعضاء المعتدلة يريد بالنسبة إلى الرطوبة والقشابة ، ولا بد منه وهو مراده وفهم منه أن المراد بقول المصنف في التوضيح الجسم المعتدل ، وقول غيره البدن المعتدل اعتدال المزاج ، لا كون الشخص بين الشباب والشيوخة بل ذلك من صور اعتدال المزاج غالبا ، وصرح الجزولي والشيخ يوسف بن عمر بأن المشهور في الطول التحديد بالعرف ، ولكن ما ذكره المصنف هو مذهب المدونة والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيه ) قال ابن فرحون : هنا دقيقة في اعتبار الجفاف وهو أنه هل يعتبر الجفاف من آخر أجزاء الفعل المأتي به أو من أول الأعضاء حتى لو غسل وجهه ويديه ثم وقع فصل ثم مسح رأسه قبل جفاف ماء اليدين وبعد جفاف ماء الوجه هل يضر ذلك أو لا ؟ وكذلك هل الاعتبار بالغسلة الأخيرة أو الأولى حتى لو طال الفصل نسيانا بين الغسلة الأولى والثانية ثم تذكر فغسل الثالثة ثم غسل العضو الذي يلي الثانية بعد مدة يجف فيها بلة الأولى دون الثالثة هل يضر أم لا ؟ قاله تقي الدين انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر من كلامهم اغتفار ذلك جميعه وأنه ما دام البلل موجودا جاز البناء والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) إذا قلنا يبني في النسيان مطلقا فتجب عليه المبادرة عند ذكره فإن أخر ذلك عامدا بطل وضوءه إن تفاحش ، وإن لم يتفاحش لم يبطل قال ابن الحاجب : فإن أخر حين ذكره فكالمتعمد وسيأتي لفظ المدونة ، وقال في النكت ولو أنه حين ذكر هذه اللمعة لم يغسلها في الوقت ثم غسلها بالقرب ، فإن كان إنما تراخى المقدار الذي لو فرق فيه طهارته لم يبتدئ الطهارة لقرب ذلك لم يبتدئ جميع طهارته وإلا فعليه ابتداء طهارته من أولها نقله في الطراز .

                                                                                                                            ( فرع ) فإن ذكر اللمعة أو العضو في موضع لم يجد فيه ما يغسلها به فحكى في النكت عن غير واحد من شيوخه أن حكمه حكم من عجز ماؤه إن طال طلبه للماء ابتدأ جميع طهارته ، ونقله في التوضيح واقتصر عليه ، وحكى عبد الحق في تهذيب الطالب له قولين : أحدهما للإبياني أنه يبني مطلقا وجد الماء قريبا أو بعيدا إذا لم يفرط ، ومضى مبادرا ، والثاني ما تقدم عن النكت ونصه بعد [ ص: 228 ] ما ذكر كلام الإبياني ، وقد ذكرت في كتاب النكت خلاف هذا عن غير واحد من شيوخنا وأنه كمن عجز ماؤه في ابتداء طهارته لا فرق بين ذلك ، وفي الواضحة لابن حبيب مثل الذي حكيته عن شيوخنا ثم رد على الإبياني وبالغ في ذلك وأطال وذكر القولين صاحب الطراز وذكرهما ابن عرفة إلا أنه عزاهما للإبياني وشيوخ عبد الحق وكذلك ابن ناجي ولم يعزواه للواضحة كما ذكر عبد الحق .

                                                                                                                            ( فرع ) فإن نسي عضوا أو لمعة ثم ذكر ذلك ثم نسي فهل يبني في النسيان الثاني كالأول أم لا ؟ قولان ذكرهما الجزولي والشيخ يوسف بن عمر وقال ابن ناجي : ظاهر المدونة أنه لا يعذر بالنسيان الثاني ، قال في المدونة : ومن ترك بعض مفروض الوضوء أو بعض الغسل أو لمعة عامدا حتى صلى أعاد الوضوء والغسل والصلاة فإن ترك ذلك سهوا حتى طاول غسل ذلك الموضع فقط وأعاد الصلاة فإن لم يغسله حين ذكره استأنف الغسل أو الوضوء . قال ابن ناجي : ظاهره ترك ذلك بعد ذكره ناسيا أو عامدا فلم يعذر بالنسيان الثاني ومثله في الصيام المتتابع إذا أفطر ناسيا فإنه يقضيه ويصله بآخر صومه فإن لم يصله ابتدأ . ظاهره ولو سهوا ويعارضهما غسل النجاسة إذا رآها قبل الدخول في الصلاة ثم صلى ونسي أن يغسلها فهو كمن لم يرها . وأجيب بضعف النجاسة وقد قيل فيها بالفضيلة وبأنه لا يجب غسلها عند رؤيتها بخلاف اللمعة فإن غسلها واجب فورا لذاتها ليصح الوضوء الذي هي منه وكذلك الصوم ، واعلم أن ما ذكرناه من عدم عذره بالنسيان الثاني خلاف فتوى ابن رشد في مسألة من صلى الخمس بوضوء وجب لكل صلاة ثم ذكر مسح رأسه من وضوء أحدهما أنه يمسحه ويعيد الخمس ، فإن أعاد الخمس ناسيا لمسح رأسه قال ابن رشد : يمسحه ويعيد العشاء فقط وذكر هذه المسألة في الذخيرة عن سحنون وهذا هو الظاهر والله تعالى أعلم . وقال الجزولي والشيخ يوسف بن عمر في عذره بالنسيان الثاني قولان قائمان من المدونة ، وأما القول بأنه لا يعذر به فيؤخذ من كلامه المذكور هنا ، وأما القول بأنه يعذر به فيؤخذ من مسألة النجاسة .

                                                                                                                            ( فرع ) إذا كانت اللمعة من مغسول الوضوء غسل موضعها ثلاثا وكذلك إن نسي عضوا غسله ثلاثا فإن كان ذلك بالقرب وأعاد ما بعده غسل ذلك مرة ومرة وإن ذكره بعد البعد غسل موضع اللمعة فقط ثلاثا قاله عبد الحق في تهذيبه والفاكهاني في شرح الرسالة والجزولي والشيخ يوسف بن عمر والشبيبي قال الجزولي : إلا أن يكون إنما غسل تلك الأعضاء أولا مرة مرة فإنه يعيدها مرتين مرتين .

                                                                                                                            ( فرع ) إذا تحقق موضع اللمعة غسلها خاصة وإن لم يتحقق موضعها غسل العضو كله .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا إذا تيقن أنه ترك لمعة أو عضوا فإن لم يتيقن ذلك بل شك فقال في المدونة : ومن شك في بعض وضوئه فلم يتيقن أنه غسله فليغسل ما شك فيه قال اللخمي : إن كان ذلك بحدثان وضوئه نظر فإن كان على العضو بلل كان ذلك دليلا على أنه غسله ، وإن لم يكن به بلل غسله وإن كان ذلك بعد طول مما يجف فيه لو كان غسله فإن عليه غسله إلا أن يكون ممن يتكرر ذلك عليه انتهى . والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) من ذكر لمعة من غسله أو عضوا فحكمه حكم من ذكر ذلك من وضوئه إلا أنه لا يعيد ما بعد ذلك ; لأن الغسل لا ترتيب فيه صرح بذلك الجزولي وغيره ولا يغسلها ثلاثا ; لأن التثليث غير مستحب في الغسل كما يفهم ذلك من كلام ابن بشير وغيره .

                                                                                                                            ( فرع ) قال في النوادر : وأعرف لبعض أصحابنا فيمن ذكر لمعة من الوضوء من إحدى يديه لا يدري من أي يد هي إلا أنه يعلم موضعها من إحدى اليدين إن كان بحضرة الماء غسل ذلك الموضع من يده اليمنى ثم غسل يده اليسرى وأعاد بقية وضوئه ، وإن طال غسل ذلك الموضع من اليدين جميعا .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية