الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو ادعى رجل على رجل حقا فصالحه من دعواه وهو منكر فالصلح باطل ويرجع المدعي على دعواه ويأخذ منه صاحبه ما أعطاه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال بالصلح على الإنكار باطل حتى يصالح بعد الإقرار بالدعوى .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ومالك : يجوز الصلح مع الإنكار استدلالا بعموم قوله تعالى : والصلح خير [ النساء : 128 ] ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل ما وقى المرء به عرضه فهو صدقة ، والصدقة تستحب لباذلها وتحل لآخذها فهكذا الصلح .

                                                                                                                                            ولأنه بذل مالا في الصلح مختارا فصح كالمقر به .

                                                                                                                                            ولأنه مدع لم يعلم كذبه فصح صلحه كالمقر له .

                                                                                                                                            ولأن اختلاف الأسامي يوجب اختلاف المعاني ، فلما اختص الصلح باسم غير البيع وجب أن يكون مخالفا لحكم البيع ، ولو كان لا يجوز إلا بعد الإقرار لكان بيعا محضا ولم يكن لاختصاصه باسم الصلح معنى ، ولأن الاعتبار في الأصول بالآخذ دون الباذل .

                                                                                                                                            ألا ترى أن شاهدا لو شهد على رجل بعتق عبده فردت شهادته ثم ابتاعه الشاهد منه حل له أخذ ثمنه لاعتقاد إحلاله .

                                                                                                                                            وإن كان الباذل معتقدا لتحريمه فكذلك الصلح يحل للآخذ ، وإن كان الباذل منكرا .

                                                                                                                                            ولأن في المنع من الصلح مع الإنكار منعا من الصلح بكل حال لأنه يبعد الصلح مع الإقرار فلم يبق له محل إلا مع الإنكار .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] والصلح على الإنكار من أكل المال بالباطل ، لأنه لم يثبت له حق يجوز أن يعاوض عليه .

                                                                                                                                            وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا .

                                                                                                                                            [ ص: 370 ] والصلح على الإنكار محرم للحلال ومحل للحرام ؛ لأنه يحل المعاوضة على غير حق ثابت وذلك حرام ، ويحرم على المدعي باقي حقه وذلك حلال .

                                                                                                                                            ولأنه صلح على مجرد الدعوى فوجب أن يكون باطلا كما لو ادعى قتل عمد فصولح عليه مع الإنكار .

                                                                                                                                            ولأنه اعتاش عن حق لم يثبت له فوجب أن لا يملك عوضه ، أصله إذا ادعى وصية فصولح بمال ، ولأنه صالح من لم يعلم صدقه فوجب أن لا يصح كما لو علم كذبه .

                                                                                                                                            ولأنه نوع معاوضة لا يصح مع الجهالة ، فوجب أن لا يصح مع الإنكار كالبيع .

                                                                                                                                            ولأن الصلح لما لم يجز على مجهول الوصف فأولى أن لا يجوز على مجهول العين .

                                                                                                                                            ولأن المبذول بالصلح لا يخلو من أربعة أحوال :

                                                                                                                                            [ الأول ] : إما أن يكون مبذولا لكف الأذى .

                                                                                                                                            [ الثاني ] : أو يكون مبذولا لقطع الدعوى .

                                                                                                                                            [ الثالث ] : أو يكون مبذولا للإعفاء من اليمين .

                                                                                                                                            [ الرابع ] : أو يكون مبذولا للمعاوضة .

                                                                                                                                            فلم يجز أن يكون مبذولا لدفع الأذى لأنه من أكل المال بالباطل .

                                                                                                                                            ولم يجز أن يكون لقطع الدعوى لما فيه من اعتبار ما يمنع من الربا ، وهو إذا كان الحق ألفا لم يجز أن يصالحه على أكثر منها .

                                                                                                                                            ولو كان دراهم صولح عليها بدنانير لم يجز أن يفارقه قبل قبضها ، ولو كان لقطع الدعوى لجاز الافتراق .

                                                                                                                                            ولم يجز أن يكون للإعفاء من اليمين لما ذكرنا من الأمرين ، فثبت أنه مبذول للمعاوضة .

                                                                                                                                            والمعاوضة تصح مع الإقرار ، وتبطل مع الإنكار ، لأن ما لم يجب من الحقوق لم يجز المعاوضة عليه .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بالآية فهو أنها مخصوصة بما ذكرنا من الدلائل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بقوله عليه السلام كل مال وقى المرء به عرضه فهو صدقة فهو أن يكون المقصود به البر لأن بذل المال لا يخلو المقصود به من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            [ الأول ] : إما أن يقصد به القربة وهو الصدقة .

                                                                                                                                            [ الثاني ] : أو الصلة وهو الهبة .

                                                                                                                                            [ ص: 371 ] [ الثالث ] : أو المعاوضة وهو البيع .

                                                                                                                                            وليس مال الصلح مقصودا به البر ولا الصلة فثبت أن المقصود به المعاوضة ، والخبر لا يتناول المعاوضة فلم يكن فيه دلالة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على المقر فهو أن المعنى في المقر أن العوض مأخوذ عما ثبت له فصح ، وفي المنكر عما لم يثبت له فلم يصح .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بأن اختلاف الأسامي يوجب اختلاف المعاني فاقتضى أن يكون الصلح مخالفا للبيع ، فهو أن البيع مخالف للصلح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الصلح في الغالب يكون بعد التنازع والمخاصمة ، والبيع بخلافه .

                                                                                                                                            والثاني : أن المقصود بالصلح الإرفاق وبالبيع المعاوضة .

                                                                                                                                            فكان افتراقهما من هذين الوجهين لا من حيث ما ذكر من الإقرار والإنكار .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الاعتبار بالآخذ دون الباذل كالشاهد فهو أنه ليس بصحيح ، والشاهد إنما كان له ابتياع من شهد بعتقه لأنه كان محكوما برقه لبايعه .

                                                                                                                                            وإن قصد مشتريه استنقاذه من رقه ، كما أن قصد من اشترى عبدا مسلما من كافر استنقاذه من أسره .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن المنع من الصلح من الإنكار يفضي إلى المنع من الصلح بكل حال فغلط : لأن المقر له قد يصالح أيضا إما لكون المقر غاصبا بيده وإما لكونه مماطلا بحقه ، ويرى أن يتعجل قبض البعض بالصلح ، ولا يمنع من الكل بالغصب أو المطل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية