الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1609 1696 - حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أفلح، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدى، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه شيء كان أحل له. [1698، 1699، 1700، 1701، 1702، 1703، 1704، 1705، 3317، 5566 - فتح: 3 \ 542]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وذكر فيه من حديث عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان قالا: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة: فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حرم عليه شيء كان حلا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 39 ] أما أثر ابن عمر ، فأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر، عن عبد الله، عن نافع أن ابن عمر قال: لا هدي إلا ما قلد وأشعر ووقف بعرفة.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث المسور بن مخرمة ومروان من أفراد البخاري، وهو قطعة من حديث طويل، ذكره البخاري في عشرة مواضع من كتابه، وبكماله يأتي إن شاء الله تعالى في الصلح متصلا، وهو من مراسيل الصحابة; لأن المسور كان سنه في الحديبية أربع سنين، وأما مروان فلم تصح له صحبة، وعن الدارقطني: أنه - عليه السلام - ساق يوم الحديبية سبعين [ ص: 40 ] بدنة عن سبعمائة رجل، وفي رواية: كانوا في الحديبية خمس عشرة مائة وسيأتي في المغازي عن جابر وعن ابن أبي أوفى كانوا ألفا وثلاثمائة، وفي رواية أربع عشرة مائة وكانت الحديبية سنة ست من الهجرة في ذي القعدة، قال ابن التين: والأشهر أربع عشرة مائة، وأقام في سفرته شهرا ونصفا، وقيل: خمسين ليلة، ورجع إلى المدينة لخمس مضين من المحرم.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة أخرجه مسلم والأربعة، وبوب له بعد فتل قلائد البدن والبقر، وليس فيه ذكر البقر، لكن قد صح أنه - عليه السلام - أهداهما جميعا، كما ذكره ابن المنير، وفي أفراد مسلم من حديث ابن عباس : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج، وفي أبي داود: [ ص: 41 ] سلته بيده، وفي أخرى: بأصبعه.

                                                                                                                                                                                                                              وإذا تقرر ذلك: فغرض البخاري في الباب أن يبين أن من أراد أن يحرم بالحج أو العمرة، وساق الهدي معه، فإن المستحب له أن لا يشعر هديه ولا يقلده إلا من ميقات بلده، وكذلك يستحب له أيضا أن لا يحرم إلا بذلك الميقات على ما عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، وفي حجته أيضا، وكذلك من أراد أن يبعث بالهدي إلى البيت ولم يرد الحج والعمرة وأقام في بلده، فإنه يجوز له أن يقلده، وأن يشعره في بلده، ثم يبعث به اقتداء بالشارع؛ إذ بعث بهديه مع أبي بكر سنة تسع، ولم يوجب عليه إحراما ولا تجردا من ثيابه ولا غير ذلك، وعلى هذا جماعة أئمة الفتوى منهم: مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، كلهم احتج بحديث عائشة في الباب، أن تقليد الهدي لا يوجب الإحرام على من لم ينوه، وردوا قول ابن عباس فإنه كان يرى أن من بعث بهدي إلى الكعبة لزمه إذا قلده الإحرام، ويجتنب كل ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه، وتابع ابن عباس على ذلك ابن عمر ، وبه قال عطاء، على خلاف عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 42 ] قال أبو عمر: وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن المسيب -على اختلاف عنه - وميمون بن أبي شبيب، وروي مثل ذلك في أثر مرفوع من حديث جابر، رواه أسد بن موسى، عن حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عطاء، عن ابن أبي لبيبة، عن عبد الملك بن جابر عنه. وابن أبي لبيبة شيخ ليس ممن يحتج به فيما ينفرد، فكيف فيما خالفه فيه من هو أثبت منه؟! ولكنه قد عمل بحديثه بعض الصحابة، وتابع ابن عباس أيضا: النخعي، والشعبي، وأبو الشعثاء، ومجاهد، والحسن، ذكره في "المصنف" وحكاه أيضا عن عمر، وعلي، وابن سيرين، وهم محججون بالسنة الثابتة، وليس أحد بحجة عليها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 43 ] قال الطحاوي: وقد رأى ربيعة بن الهدير -فيما رواه مالك، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم- رجلا متجردا بالعراق، فسأل الناس عنه، فقالوا: أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، فذكر ذلك لابن الزبير، فقال: بدعة ورب الكعبة. فلا يجوز أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة، إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر: وأما ابن عباس فاعتمد على حديث جابر، وقد ذكرنا علته، ولو علم به ابن الزبير لم يقسم.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المصنف" عن أنس، والحسن، وعائشة، وعلقمة، وابن مسعود مثل حديث عائشة، وبين أن الذي رآه ربيعة بن الهدير متجردا، وأخبر به ابن الزبير عبد الله بن عباس ، زمن إمرته على البصرة، ثم ذهب جماعة العلماء إلى سنية الإشعار إلا أبا حنيفة. قال ابن حزم: لا نعلم له فيه سلفا.

                                                                                                                                                                                                                              ونقله ابن بطال، عن إبراهيم النخعي، وفي "المصنف" عن عائشة وابن عباس : إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا، ومن حديث ليث، عن [ ص: 44 ] عطاء وطاوس ومجاهد مثله، وفي لفظ عنهم: ليس الإشعار بواجب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي: أبو حنيفة لم يكره أصل الإشعار، وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاكا كسراية الجرح لا سيما في حر الحجاز مع الطعن بالسنان أو الشفرة، وأراد سد الباب على العامة; لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من وقف على الحد (في ذلك) فقطع الجلد دون اللحم فلا يكره. وذكر الكرماني عنه استحسانه، قال: هو الأصح لا سيما إن كان بمتبيغ ونحوه، فيصير كالفصد والحجامة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "شرح الهداية": هو أن يطعنها في أسفل سنامها من الجانب الأيسر حتى يسيل الدم. قاله أبو يوسف ومحمد؛ لما روي عن ابن عمر أنه كان يشعرها مرة في الأيمن ومرة في الأيسر، ذكره ابن بطال. وحديث ابن عباس السالف، وأثر ابن عمر : "الأيمن" وتأوله بعض المالكية لصعوبتها. وقد روي عن نافع: كان ابن عمر إن كانت بدنته ذللا أشعرها في الأيسر، وإن كانت صعبة قرن بدنتين، ثم قام بينهما وأشعر إحداهما من الأيمن، والأخرى من الأيسر. وابن عمر [ ص: 45 ] كان من التابعين للآثار. والذي عنه في "الموطأ": من الأيسر، رواه مالك، عن نافع عنه. والذي عنه في البخاري مرسل لم يسنده.

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك في "العتبية": لم يشعرها ابن عمر في الشقين; لأنها سنة لكن ليذللها، وإنما السنة في الأيسر مطلقا. قال محمد: في الشقين أي: في أي الشقين أمكنه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن قدامة: وعن أحمد من الجانب الأيسر; لأن ابن عمر فعله، وبه قال مالك.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: وهو الذي اشتهر في "المدونة" وغيرها. وحكاه ابن حزم، عن مجاهد بقوله: كانوا يستحبون الإشعار في الأيسر. وعند الشافعي وأحمد في قول، وأبي يوسف ومحمد: "الأيمن".

                                                                                                                                                                                                                              وزعم القائلون بالأيسر، بأنه - عليه السلام - كان يدخل بين البعيرين من قبل رءوسهما فيضرب أولا عادة عن يساره من قبل يسار السنام، ثم يعطف على الآخر فيضربه من قبل يمينه، فصار الطعن في الجانب الأيسر أصليا; لأنه المفعول أولا، وفي الأيمن اتفاقيا، والأصل أولى.

                                                                                                                                                                                                                              وزعم صاحب "المطالع" أن إشعارها هو تعليمها بعلامة بشق جلد سنامها عرضا، من الجانب الأيمن، هذا عند الحجازيين، وأما العراقيون: فالإشعار عندهم تقليدها بقلادة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 46 ] وقال ابن حبيب: يشعرها طولا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: عرضا، والعرض: عرض السنام من العنق إلى الذنب. قال ابن التياني: أشعرت الناقة إذا وجأت في كتفها. وفي "الجامع": أشعرها إشعارا، وإشعارها أن يوجأ أصل سنامها بسكين، سميت بما حل فيها، وذلك أن الذي يغلب بها علامة تعرف بها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيده: هو أن يشق جلدها أو يطعنها حتى يظهر الدم.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا -كما قال ابن بطال - في إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول: تشعر في أسنمتها، وحكاه ابن حزم، عن أبي بن كعب أيضا، وقال عطاء والشعبي: تقلد وتشعر، وهو قول أبي ثور.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك: تشعر التي لها سنام وتقلد، ولا تشعر التي لا سنام لها وتقلد. قال سعيد بن جبير : تقلد ولا تشعر. واختار ابن حبيب: أن تشعر وإن لم يكن لها أسنمة.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: وما علمت أحدا ذكر الخلاف في البقر المسنمة إلا الشيخ أبا الحسن، وما أراه موجودا، وأما الغنم فلا يسن إشعارها لضعفها، ولأن صوفها يستر موضع الإشعار، وأما التقليد فسنة بالإجماع وهو تعليق نعل أو جلد، وما أشبهه؛ ليكون علامة للهدي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 47 ] قال الحنفيون: لو قلد بعروة مزادة، أو لحاء شجرة، وشبه ذلك جاز; لحصول العلامة، وذهب الشافعي والثوري إلى أنها تقلد بنعلين لحديث ابن عباس السالف، وبه قال ابن عمر ، وقال الزهري ومالك: تجزئ واحدة، وعن الثوري: تجزئ فم القربة، ونعلان أفضل لمن وجدهما.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              لم يذكر البخاري رحمه الله حكم الهدي إذا عطب، وقد أخرج مسلم في "صحيحه" (من أفراده) : نحرها، وصبغ نعلها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية