الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1757 1758 ص: وقد حدثنا ربيع المؤذن ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال: "أتيت عمر بن عبد العزيز والوتر بالمدينة -يقول الفقهاء-: ثلاثا لا يسلم إلا في آخرهن".

                                                حدثنا أبو العوام محمد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي ، قال: ثنا خالد بن نزار الأيلي ، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن السبعة: سعيد ابن المسيب ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وخارجة بن زيد ، وعبيد الله بن عبد الله ، وسليمان بن يسار ، -في مشيخة سواهم أهل فقه وصلاح وفضل- وربما اختلفوا في الشيء فأخذ بقول أكبرهم وأفضلهم رأيا، فكان مما وعيت عنهم على هذه الصفة أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن. .

                                                فهذا من ذكرنا من فقهاء المدينة وعلمائهم قد أجمعوا أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا

                                                [ ص: 118 ] في آخرهن، وتابعهم على ذلك عمر بن عبد العزيز ، - رضي الله عنه -، ولم ينكر ذلك منكر سواهم، وقد علم سعيد بن المسيب ما كان من وتر سعد ، فأفتى بغيره ورآه أولى منه، وقد أفتى عروة بن الزبير كذلك أيضا، وقد روى عنه الزهري وابنه هشام في الوتر ما قد تقدمت روايتنا له في هذا الباب.

                                                فهذا عندنا مما لا ينبغي خلافه; لما قد شهد له من حديث رسول الله - عليه السلام - ومن فعل أصحابه ومن أقوال أكثرهم من بعده ثم لما اتفق عليه تابعوهم.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا إلى بيان إجماع فقهاء المدينة الذين هم أهل فقه وصلاح وفضل ولا سيما الفقهاء السبعة المشهورون بالفضل التام، والعلم الغزير والدين المتين على أن الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، ثم إن مثل عمر بن عبد العزيز الذي هو من الخلفاء الراشدين الذين كانوا بالحق يعدلون قد تابعهم في ذلك وكفى به حجة في الدين، فإن قوله وفعله حجة بلا خلاف، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أرى قول أحد من التابعين حجة [....] عمر بن عبد العزيز، ولم ينكر ذلك منهم منكر ولا من سواهم، فصار إجماعا على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن.

                                                وعن هذا قال الحسن البصري: "أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن".

                                                أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : عن حفص ، عن عمرو، عنه.

                                                فإذا كان الأمر كذلك لا ينبغي لأحد خلاف هذا، وقد شهد له من حديث رسول الله - عليه السلام - ثم من فعل الصحابة من بعده كأبي بكر وعمر وعلي وأنس وعبد الله بن مسعود وآخرين، ثم من اتفاق التابعين عليه، ثم من أتباع التابعين.

                                                [ ص: 119 ] وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا غندر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق قال: "كان أصحاب علي وأصحاب عبد الله لا يسلمون في ركعتي الوتر".

                                                ثم إسناد ما رواه الربيع صحيح. وهو الربيع بن سليمان المؤذن يروي عن عبد الله ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي ، وعبد الرحمن وإن تكلم فيه قوم فهو ثقة عند آخرين، وبين الفقهاء السبعة بما رواه عن أبي العوام ، عن خالد بن نزار الأيلي المنسوب إلى مدينة أيلا، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه، عن السبعة، وهم: سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير بن العوام ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني ، وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام -.

                                                قوله: "عن السبعة" أي الفقهاء السبعة.

                                                قوله: "سعيد بن المسيب" بالجر بدل عن قوله: "عن السبعة"، أو عطف بيان وما بعده عطف عليه، ويجوز بالرفع على تقدير: وهم سعيد بن المسيب وعروة ... إلى آخره.

                                                قوله: "في مشيخة سواهم" أي سوى هؤلاء السبعة، وهم مثل علقمة ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وحماد وإبراهيم النخعي .

                                                وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن طلق ، عن معاوية، عن علقمة قال: "الوتر ثلاث".

                                                ثنا أبو أسامة ، عن عثمان بن غياث، قال: سمعت جابر بن زيد يقول: "الوتر ثلاث".

                                                [ ص: 120 ] ثنا زيد بن الحباب ، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير: "أنه كان يوتر بثلاث، ويقنت في الوتر قبل الركوع".

                                                ثنا وكيع ، عن هشام بن الغاز، عن مكحول: "أنه كان يوتر بثلاث ويقنت في الوتر قبل الركوع".

                                                ثنا وكيع ، عن مسعر، عن حماد قال: "نهاني إبراهيم أن أسلم في الركعتين من الوتر".

                                                و"المشيخة": بفتح الميم جمع شيخ، قال الجوهري: جمع الشيخ: أشياخ وشيوخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء.

                                                والشيخ في اللغة يطلق على من استبانت فيه السن، ويقال: من عدى خمسين سنة يسمى شيخا إلى ثمانين سنة، ثم يصير رهما، ولكن المراد ها هنا من الشيخ: من تقدم في العلم وإن لم يبلغ حد الشيخوخة في السن، ويقال: الشيخ من يصلح أن يتلمذ له.

                                                قوله: "أهل فقه" بالجر صفة للجماعة المذكورين.

                                                قوله: "مما وعيت عنهم" أي مما حفظت وفهمت عن هؤلاء الفقهاء.

                                                قوله: "وتابعهم على ذلك" أي تابع الفقهاء المذكورين على أن الوتر ثلاث: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة بعد ابن عمه وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل: سنتان ونصف.

                                                [ ص: 121 ] وقوله: "وقد علم سعيد بن المسيب ... " إلى آخره إشارة إلى ما كان يفعله سعد بن أبي وقاص من إيتاره بركعة من رأيه واجتهاده; فلأجل ذلك أفتى سعيد بن المسيب بخلافه ورأى أن ما ذهب إليه غيره من أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخره أولى مما ذهب إليه هو.

                                                وكذلك أفتى عروة بن الزبير بن العوام بخلاف ما ذهب إليه سعد بن أبي وقاص، والحال أنهما كانا يعلمان ما ذهب إليه سعد، ولو لم يكن ما عندهما مما أفتيا به أولى مما ذهب إليه سعد لما تركاه ولما اختارا غير ما ذهب إليه سعد، ولو كان ما فعله سعد عن أصل يرجع إليه لما جاز لسعيد بن المسيب ولا لعروة أن يخالفاه; على ما لا يخفى.




                                                الخدمات العلمية