الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 1043 ] 1406 - ( وعن عمار قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته مئنة من فقهه ; فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ، وإن من البيان لسحرا رواه مسلم ) .

التالي السابق


1406 - ( وعن عمار قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن طول صلاة الرجل ) أي : إطالتها ( وقصر خطبته ) بكسر القاف ، وفتح الصاد أي : تقصيرها ( مئنة ) بفتح الميم وكسر الهمزة وتشديد النون ، وأما قول ابن حجر : وحكي فتح الهمزة فغير ثابت في الأصول ( من فقهه ) أي : علامة يتحقق بها فقهه ، مفعلة بنيت من إن المكسورة المشددة ، وحقيقتها مظنة ، ومكان لقول القائل : أنه فقيه ; لأن الصلاة مقصودة بالذات ، والخطبة توطئه لها ، فتصرف العناية إلى الأهم ، كذا قيل أو لأن حال الخطبة توجهه إلى الخلق ، وحال الصلاة مقصدة الخالق ، فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه . وقال : فكل شيء دل على شيء فهو مئنة له ، وحقيقتها أنها مفعلة من معنى إن التي للتحقيق ، غير مشتقة من لفظها ; لأن الحروف لا يشتق منها ، وإنما ضمن حروفها دلالة على أن معناها فيها ، ولو قيل : إنها مشتقة منها بعد ما جعلت اسما لكان قولا ، ومن أغرب ما قيل فيها : إن الهمزة بدل من ظاء المظنة ، والميم في ذلك كله زائدة . قال أبو عبيدة : معناه أن هذا مما يستدل به - صلى الله عليه وسلم - ذلك علامة من فقهه ; لأن الصلاة هي الأصل ، والخطبة هي الفرع ، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة ، ( فأطيلوا الصلاة ، واقصروا الخطبة ) قال ابن الملك : المراد بهذا الطول ما يكون على وفاق السنة ، لا أقصر منها ولا أطول ; ليكون توفيقا بين هذا الحديث والحديث قبله انتهى . أقول : لا تنافي بينهما ; فإن الأول دل على الاقتصاد فيهما ، والثاني على اختيار المزية في الثانية منهما ، لا ينافي هذا ما ورد في مسلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر وصعد المنبر فخطب إلى الظهر ، فنزل وصلى ثم صعد وخطب إلى العصر ، ثم نزل وصلى ، ثم صعد وخطب إلى المغرب ، فأخبر بما كان ، وما هو كائن اهـ .

لوروده نادرا اقتضاه ، ولكونه بيانا للجواز ، وكأنه كان واعظا ، والكلام في الخطب المتعارفة ، ( وإن من البيان لسحرا ) أي : بعض البيان يعمل عمل السحر ، فكما يكتسب الإثم بالسحر ، يكتسب ببعض البيان أو منه ما يصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون وإن كان غير حق ، ففي هذا إشارة إلى بيان الحكمة في قصر الخطبة ; فإنه في معرض البلية ، فيجب عليه الاحتراز من هذه المحنة حتى لا يقع في الرياء والسمعة ، وابتغاء الفتنة ، فهو ذم لتزيين الكلام وتعبيره بعبارة فيها السامع كالتحير في السحر ، نهي عنه كهو عن السحر ، وقيل : بل هو مدح للفصاحة والبلاغة ، يريد أن البليغ - أي : الذي له ملكة يقتدر بها تأليف كلام بليغ ، أي : مطابق لمقتضى الحال - يبعث الناس على حب الآخرة ، والزهد في الدنيا ، وعلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ببلاغته وفصاحته ; فبيانه هو السحر الحلال في اجتذاب القلوب ، والاشتمال على الدقائق واللطائف ، فهو تشبيه بليغ ، والظاهر أنه من عطف الجمل ذكره استطرادا . وقال الطيبي : الجملة حال من اقصروا ، أي : اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة في ألفاظ يسيرة ، وهو من أعلى طبقات البيان ; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم : " أوتيت جوامع الكلم " . قال النووي : قال القاضي عياض فيه تأويلان : أحدهما : أنه ذم لإمالة القلوب وصرفها بمقاطع الكلام ، حيث يكتسب به من الإثم ما يكتسب بالسحر ، وأدخله مالك في الموطأ في باب ما يكره من الكلام ، وهذا مذهبه في تأويل الحديث . والثاني : أنه مدح ; لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليم البيان ، وشبه بالسحر لميل القلوب إليه ، وأصل السحر الصرف ، والبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما يدعو إليه . وقال النووي : وهذا الثاني هو الصحيح المختار ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية