الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 504 ] الباب الثالث في حقيقته .

                                                                                                                وهي الإمساك عن دخول كل ( ما ) يمكن الاحتراز منه غالبا من المنافذ المحسوسة كالفم والأنف والأذن إلى المعدة ، والإخراج كالجماع والاستمتاع والاستقاء على الخلاف ، وما يجري في ذلك يكون في أحد عشر فرعا :

                                                                                                                الأول في الكتاب : القبلة ، والمباشرة ، وفي الصحيح : " كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم " ، ثم تقول : ( وأيكم أملك ) لنفسه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويروى أربه - بفتح الألف وبكسر الألف وسكون الراء - وقال الخطابي : وكلاهما حاجة النفس .

                                                                                                                قال سند : وخصص ( ح ) و ( ش ) والقاضي الحرمة بمن تحرك القبلة شهوته ، والمذهب التسوية كالاعتكاف والإحرام ، والكراهة تحريم ( عند ) القاضي ، وتنزيه عند غيره ، فإن أنزل ، ففي الكتاب : عليه القضاء والكفارة ، وأسقط الكفارة ( ش ) و ( ح ) لقصوره عن الجماع . . . على قصد الإفساد .

                                                                                                                وفي الكتاب : لو باشر فأمذى أو أنعظ أو التذ فعليه القضاء ، وإلا فلا ، وأسقط ( ح ) و ( ش ) القضاء في المذي ; لكونه كالبول لإيجاب الوضوء ، والإجماع على عدم إيجابه الكفارة .

                                                                                                                وجوابه القياس على المني بجامع اللذة ، وأما عدم الكفارة فلأن سنتها قصد الإفساد ولم يوجد ، قال سند : ظاهر المذهب وجوب القضاء ، وقيل : يستحب ; لأنه لا يعلم خلاف في عدم تحريم المباشرة للإنسان امرأته بعد الفجر ; فلو نظر بلذة [ ص: 505 ] فأنزل ، قال مالك : عليه القضاء دون الكفارة ، قال ابن القاسم : إلا أن يديم النظر بلذة فعليه الكفارة . وقال اللخمي : عليه الكفارة بالإنزال وإن لم يتابع كالقبلة ، وأسقط ( ح ) و ( ش ) القضاء والكفارة فلو نظر من غير قصد فأمذى ، قال مالك : عليه القضاء ، وأسقطه ابن حبيب إذا التذ وأوجبه إذا أمذى ، ولو تذكر فأمذى فعليه القضاء عند ابن القاسم ، وفي الجواهر : إذا لم يدم الفكر والنظر فلا شيء عليه ، ويكره الإقدام عليه .

                                                                                                                الثاني في الكتاب : إن احتقن فعليه القضاء فقط وقاله الأئمة ، وقال القاضي في الإشراف : لا يفطر كما أن اللبن إذا وضع في الدبر لا يحرم . لنا أن الحقنة في الأمعاء والكبد ، تجذب من الأمعاء كما تجذب من المعدة فتفطر ، وأما الإرضاع فلأن الحكم متعلق بوصفه . . . نية ; لأن اللبن لو استهلك بطعام لا يحرم مع إغذائه .

                                                                                                                الثالث : كره في الكتاب : السعوط ، وقال إذا وصل الكحل في العين أو الدهن في الأذن إلى الحلق فعليه القضاء فقط ، وإلا فلا شيء عليه . وفي الجواهر : إذا وجد طعم الدهن الموضوع على رأسه في حلقه أفطر ، وقال أبو مصعب : لا يفطر بالكحل ، وكرهه ابن القاسم من غير تفصيل ، قال سند : يكره كل ما لا يؤمن وصوله إلى الجوف ، ولا يفطر ما وصل إلى الدماغ خلافا للأئمة محتجين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : وبالغ في الاستنشاق ما لم تكن صائما " .

                                                                                                                وجوابه : حذر الوصول إلى الجوف ، ويعضده أن التحريم إنما يتناول شهوتي الفم والفرج ; لقوله تعالى : ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) . بقي ما عدا ذلك على الأصل ، وإلا فالجسد يتغذى من خارجه بالدهن وغيره ، ولا يفطر إجماعا .

                                                                                                                [ ص: 506 ] الرابع : من تبخر للدواء فوجد طعم الدخان في حلقه يقضي الصوم بمنزلة وجدان الكحل في العين في الحلق . وقال محمد بن لبابة : يكره استنشاق البخور ، فإن فعل لم يفطر . وفي التلقين يجب الإمساك عن الشموم ولم يفصل . قال سند : ولو حك الحنظل تحت ( قدميه ) فوجد طعمه في حلقه ، أو قبض على الثلج فوجد بردا في جوفه لم يفطر ، وأباحمطرف الكحل ، وابن الماجشون الإثمد ، وإذا قلنا بالقضاء فسوى أشهب بين الواجب بالنذر وغيره وبين التطوع ، وخصصه ابن حبيب بالواجب ، والمنع في جميع هذه الأشياء إنما هو بالنهار ، أما إذا جعلت بالليل فلا يضر هبوطها بالنهار اعتبارا بما يقطر من الرأس من البلغم .

                                                                                                                الخامس : قال ابن القاسم في الكتاب : لا أرى . . . في الإحليل شيئا ، ولا . . . ووافقه ( ح ) وابن حنبل خلافا ل ( ش ) . لنا أن الكبد لا يجذب من الذكر ولا من . . . بخلاف الحقنة ، وكذلك ذو الجائفة لا يصل إلى الكبد .

                                                                                                                السادس : كره في الكتاب الحجامة ، فإن فعل وسلم فلا شيء عليه ، وقاله ( ح ) و ( ش ) ، وقال ابن حنبل : يفطر الحاجم والمحجوم ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفطر الحاجم والمحجوم " . وما في الصحيحين : أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم . يحتمل الأول أنهما كانا يغتابان فسماهما مفطرين بذهاب الأجر ، أو أن الحاجم وجد طعم الدم والمحجوم عجز عن الصوم ، أو مر بهما آخر النهار فكأنه عذرهما أو دعا عليهما .

                                                                                                                السابع : كره في الكتاب ذوق الأطعمة ، ووضع الدواء في الفم ، ( ووضع العلك والطعام للصبي ) أو غيره . قال سند : فإن وجد طعمه في حلقه ولم يتيقن الازدراد فظاهر المذهب إفطاره خلافا للشافعية ، وقاسوا الطعم على الرائحة ، والفرق أن الرائحة لا تستصحب من الجسم شيئا بخلاف الطعم .

                                                                                                                [ ص: 507 ] السابع : في الكتاب : إذا بلع فلقة حبة بين أسنانه أو عبر حلقه ذباب لا يضره لتعذر الاحتراز من ذلك ، وقاله ( ش ) و ( ح ) ، قال سند : وفطره سحنون بالذباب ، وأشهب بالفلقة ، وفي كتاب ابن مصعب : إن كان ساهيا فعليه القضاء ، وإلا فالقضاء والكفارة . ولا فرق بين السهو والعمد على المذهب ; لأن الفم قد استهلك ما فيه فصار كالريق ، وفطره ( ش ) وابن حنبل .

                                                                                                                وأما الخبز المتميز واللحم فيفسد الصوم عنده .

                                                                                                                الثامن : قال سند : فإن ابتلع ما لا يغذي كالحصاة ، قال سحنون : عليه الكفارة إن تعمده وإلا فالقضاء فقط ; لأنه يثقل المعدة ويكسر سورة الجوع ، وقال ابن القاسم : لا شيء في سهوه ، وفي عمده الكفارة ، وقال الحسن بن صالح : لا يفطر مطلقا ; لأنه ليس طعاما ولا شرابا ، وقال مالك : يفطر ، ولا يكفر مطلقا . فهذه أربعة أقوال ، وغبار الطريق لا يفطر لضرورة الملابسة ، واختلف في غبار الدقيق لأهل صنعته فاعتبره أشهب ، وألغاه ابن الماجشون وهو الأظهر ، وفي الجواهر : اختلف في غبار ( الجباسين ) أولى بعدم الإفطار 0

                                                                                                                التاسع : في الكتاب : إن سبقه القيء فلا شيء عليه ، وإن تقيأ فعليه القضاء - وقاله الأئمة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي داود : " من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، وإن استقاء فليقض " . والفرق أن الاستقاء يتعلق باللهوات ، ثم يرجع فيصير كالأكل مختارا ، وفي الجلاب : القضاء مستحب ; لأنه لو كان في . . . لاستوى مختاره ، وغالبه كالأكل والجماع إذا أكره عليهما ، والفرق ما للنفس فيهما من الحظ بخلافه . . . بشهوتي الفم والفرج ، قال سند : وأوجب ابن الماجشون في عمده الكفارة ، وهذا الخلاف إذا لم يزدرد منه شيئا ، أما لو ازدرد متعمدا ، قال سحنون : عليه الكفارة كان بلغما أو طعاما .

                                                                                                                والخلاف هاهنا مثل الخلاف في العلقة يبتلعها ، وفي الجواهر : روى أبو أويس : عليه القضاء وإن لم يزدرد شيئا . قال سند : والفرق بين ذرع القيء من علة أو امتلاء قليله أو كثيره تغير أم لا . والقلس كالقيء وهو ما يصعد من فم المعدة عند [ ص: 508 ] امتلائها . فإن بلغ إلى فيه فأمكن طرحه ولم يفعل ، قال مالك : لا قضاء عليه ، وقال ابن حبيب : عليه القضاء في سهوه ، والكفارة في جهله وعمده ، ورجع مالك إلى القضاء . فإن خرج البلغم من الصدر أو الرأس بالتنخم . . . من طرف لسانه ، قال سحنون : عليه في سهوه القضاء ، وأسقطه ابن حبيب إلحاقا بالريق ، ولو جمع ريقه في فمه ثم بلعه ، قال بعض الشافعية : لا يفطر كقول ابن حبيب ، وقال بعضهم : يفطر كقول سحنون ، وفي الجواهر : لو ابتلع دما خرج من سنه قيل لا يفطر .

                                                                                                                العاشر : إذا سبقه الماء من المضمضة يقضي في الواجب دون التطوع ، قال سند : لا تكره المضمضة للحر والعطش ولا لغير ذلك ، وإنما تكره المبالغة ، والفرق بينها وبين مداواة الحفر : أن الماء لا يعلق بخلاف الدواء ، وكره مالك غمس الرأس في الماء للتغرير بالدخول في الأنف أو الفم ، فإن غلبه قال أشهب : يقضي في الواجب .

                                                                                                                الحادي عشر : في الكتاب : يستاك في جملة النهار إلا بالأخضر ، وقاله ( ح ) ، وقال ( ش ) وابن حنبل : يكره بعد الزوال ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " . والخلوف - بضم الخاء - تغير رائحة الفم بعد الأكل ، فلا يزال ما مدحه الله بالسواك ، وقياس . . . بجامع أثر العبادة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن مدحه يدل على فضيلته لا على أفضليته على غيره ، ولأن الوتر أفضل من الفجر مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " . وكم من عبادة أثنى الشرع عليها مع فضل غيرها عليها . وهذه [ ص: 509 ] المسألة من قاعدة ازدحام المصالح التي يتعذر الجمع بينها ، فالسواك لإجلال الرب تعالى حالة خطابه في الصلاة ; لأن تطهير الأفواه لمخاطبة العظماء تعظيما لهم ، والخلوف مناف لذلك فيقدم السواك ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " معناه لأوجبته . وهو يدل على أن مصلحته تصلح للإيجاب ، وانتفاء الإيجاب للمشقة وهو عام في الصلوات ، وليس في حديث الخلوف ما يخصصه لما تقدم ، وقد قيل : إن حديث الخلوف إنما كان نهيا عن [ عدم ] محادثة الصائم لأجله .

                                                                                                                وعن الثاني : الفرق بأن الشهيد غير مناج لربه ، ولأنه جرحه أشد من الدم فلا يوثر زواله بل بقاؤه يوجب من ربه الرحمة له كما تقدم في الجنائز .

                                                                                                                سؤال : الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه ، فيعلم الخلوف منتنا فكيف يكون عنده أطيب من المسك ؟

                                                                                                                جوابه : ليس المراد أن الخلفة طيبة ، بل تشبيه الحسن الشرعي بالعرفي ; أي : هذا المنتن في نظر الشرع أفضل من ريح المسك عند الطبع ، إما لصبر الصائم عليه ، والصبر عمل صالح ، أو للسبب فيه بالصوم الذي هو عمل صالح ، وإلا فالخلوف ليس من كسبه حتى يمدح عليه أو يمدح في نفسه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية