الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله :( فأعقبهم نفاقا ) فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره . والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ، ولا يجوز إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح ؛ لأن هذه الثلاثة أعمال الخير ، فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق ، ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض ؛ لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركا لأداء الواجب ، وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق في القلب ؛ لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر ، وهو جهل وترك بعض الواجب ، لا يجوز أن يكون مؤثرا في حصول الجهل في القلب ؛ أما أولا فلأن ترك الواجب عدم ، والجهل وجود ، والعدم لا يكون مؤثرا في الوجود ، وأما ثانيا فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق ، مع أنه لا يحصل معه النفاق ، وأما ثالثا فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزا شرعا أو كان محرما شرعا ؛ لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثرا ، وأما رابعا فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية :( بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) . فلو كان فعل الإعقاب مسندا إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلفهم وإعراضهم وتوليهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز ؛ لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ، ومعلوم أنه كلام باطل . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه ، فوجب إسناده إليه ، فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قال الزجاج : إن معناه : أنهم لما ضلوا في الماضي ، فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل ، والذي يؤكد القول بأن قوله :( فأعقبهم نفاقا ) مسند إلى الله جل ذكره أنه قال :( إلى يوم يلقونه ) . والضمير في قوله تعالى :( يلقونه ) عائد إلى الله تعالى ، فكان الأولى أن يكون قوله :( فأعقبهم ) مسندا إلى الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القاضي : المراد من قوله :( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ) أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق ، وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر ، وما ينالهم من الذل والذم ، ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة . قلنا : هذا بعيد ؛ لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة ، فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر ، قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية ، لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الليث : يقال : أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك . قال الهذلي :


                                                                                                                                                                                                                                            أودى بني وأعقبوني حسرة بعد الرقاد وعبرة لا تقلع



                                                                                                                                                                                                                                            ويقال : أكل فلان أكلة أعقبته سقما ، وأعقبه الله خيرا . وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال : أعقبه الله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية